سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
عقب تعاون استمر لثماني سنوات بين فرنسا ومالي في ملف مكافحة الإرهاب، تمكنت الأولى فيها من بناء وتعزيز التعاون مع باقي دول الساحل عبر بوابة تعزيز القدرات الأمنية والعسكرية الأفريقية ومكافحة الإرهاب، اتجهت العلاقات الفرنسية – المالية في الآونة الأخيرة إلى مزيد من التوتر والتصعيد، عكسها السجال السياسي وتبادل الاتهامات بين قادة الدولتين، والذي من المفارقة وصل إلى حد اتهام رئيس الحكومة الانتقالية في مالي شوغيل مايغا لباريس، في 8 أكتوبر الجاري (2021)، بتدريب جماعات إرهابية في بلاده.
تسببت عدة عوامل في نشوب الخلاف بين فرنسا ومالي، بعدما حرصت الأخيرة طوال سنوات ممتدة منذ عام 2012 على تأسيس علاقات استراتيجية مع الأولى، ويتمثل أبرزها في:
1- الانسحاب الفرنسي من مالي وإعادة تموضع قواتها في منطقة الساحل: بالنظر إلى ما تُعانيه البيئة الأمنية والسياسية في منطقة الساحل الأفريقي من مخاطر عدة سواء الناجمة عن تصاعد العمليات الإرهابية في المنطقة، لاسيما في المنطقة الحدودية الممتدة بين مالي والنيجر وبوركينافاسو أو ما يطلق عليها “مثلث الموت”، وضعف القدرات الأمنية والعسكرية الأفريقية، أو ما تواجهه من أزمات سياسية أفضت إلى مزيد من عدم الاستقرار السياسي والأمني كوقوع أربعة انقلابات عسكرية في المنطقة خلال 13 شهر فقط، اثنان منهما في مالي، كان من المؤكد أن يُثير إعلان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في 9 يوليو الماضي، استعداد بلاده لسحب أكثر من 2000 جندي من قواتها المرابطة في منطقة الساحل لمكافحة الإرهاب في إطار عملية “برخان” بحلول أوائل عام 2022، في إطار خطة تتضمن إغلاق قواعد “برخان” في مناطق تمبكتو وتيساليت وكيدال الشمالية في مالي خلال الأشهر الستة المقبلة، مع البدء في إعادة تموضع القوات الفرنسية في منطقة الساحل، لاسيما في “مثلث الموت” عبر قوات إقليمية متخصصة، قلق واستنكار مالي التي طالما نظرت لباريس كحليف استراتيجي لها في مكافحة الإرهاب، وهو ما عبّر عنه رئيس وزراء مالي شوغيل مايغا في كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في 25 سبتمبر الفائت باتهام باريس بـ”التخلي” عن بلاده “في منتصف الطريق”، وردت عليه فرنسا على لسان رئيسها ماكرون باتهام حكومة مالي بافتقادها لـ”الشرعية الديمقراطية”، وهو ما اتجهت على إثره العلاقات المالية- الفرنسية نحو مزيد من التوتر والتصعيد.
فعلى الرغم من تأكيد باريس مراراً وتكراراً على لسان الرئيس ماكرون ووزيرة الجيوش الفرنسية فلورنس بارلي بأن تغيير فرنسا لاستراتيجيتها في منطقة الساحل لا يعني مغادرتها المنطقة، وأن فرنسا لا تزال “مصممة” على مواصلة معركتها ضد الإرهاب إلى جانب القوات المالية، إلا أن القلق والاستنكار المالي للمقاربة الفرنسية الجديدة في منطقة الساحل، يعودان لاعتبارين رئيسيين: أولهما؛ أنها جاءت في ظل ما تعانيه باماكو من تدهور شديد في الأوضاع السياسية والأمنية والاقتصادية، كان من أبرز مظاهره ما شهدته البلاد من انقلابين عسكريين –من أصل خمسة انقلابات– في أقل من عام كان آخرها في مايو 2021.
وثانيهما؛ ما اتخذته باريس، في يونيو 2021، من قرارات بتعليق عملياتها العسكرية المشتركة مع القوات المالية في أعقاب الانقلاب العسكري المالي في مايو من العام نفسه، في خطوة مفاجئة لم تدم أكثر من شهر وانتهت في 3 يوليو الماضي، حيث وجّهت من خلالها باريس عدداً من الرسائل السلبية لمالي حول حدود وطبيعة الدعم الفرنسي لها، إلى جانب بدء تخلي ماكرون عن سياسة غض الطرف الفرنسي عن عدد من الملفات التي تتسم بالحساسية الشديدة في مالي، والاتجاه نحو الربط بينها وبين الدعم العسكري الفرنسي، وهذا ما ظهر في حديث ماكرون الذى تطرق فيه إلى أن “الوجود الطويل الأمد لفرنسا في العمليات (العسكرية) الخارجية لا يمكن أن يكون بديلاً عن عودة الدولة والخدمات العامة والاستقرار السياسي وخيارات الدول ذات السيادة”، فقد أدرك المسئولون فى مالى التحول الذى شاب الموقف الفرنسي تجاه بلادهم من الدعم الدائم واللامحدود إلى الدعم المشروط غير المستقر، وبالتالي الاتجاه نحو فرض مزيد من الضغوط غير المقبولة على باماكو.
ويمكن القول إن ثمة دوافع عديدة تفسر اتجاه باريس نحو “الانسحاب الجزئي” من منطقة الساحل، ومن مالي على وجه الخصوص: أولها؛ تصاعد الأصوات الأفريقية المعارضة للوجود الفرنسي والمطالبة بخروجها من مالي ومنطقة الساحل، واصفةً تواجدها بـ”احتلال” جديد لبلادها، فشل في وضع حد لتنامي العمليات الإرهابية. وثانيها؛ وقوع باريس في مرمي الانتقادات الأوروبية نتيجة السياسة المزدوجة بعدما انحازت لدعم حلفائها الأفارقة في المنطقة على حساب القيم والمبادئ الغربية القائمة على تعزيز دور المؤسسات ونظم الحكم المدني واحترام الحريات وحقوق الإنسان وتعزيز آليات الديمقراطية، وهو ما انعكس في الدعم الفرنسي للمرحلة الانتقالية التشادية بقيادة المجلس العسكري التشادي عقب مقتل الرئيس إدريس ديبي. وأدى تعرض باماكو لانقلاب عسكري ثانٍ خلال عام واحد في مايو 2021 إلى إحراج باريس أمام المجتمع الأوروبي، مما دفعها لإطلاق تحذيراتها لمالي وتشاد بأنها لن تتحمل مسئولية عجز قادتها عن تحملها، حيث قالماكرون: “هذا مستحيل وإلا ستكون مهمة لا نهاية لها”، و”إن الوجود الطويل الأمد لفرنسا في العمليات (العسكرية) الخارجية لا يمكن أن يكون بديلاً عن عودة الدولة والخدمات العامة والاستقرار السياسي وخيارات الدول ذات السيادة”.
وثالثها؛ محاولة ماكرون جذب أصوات الناخبين في الانتخابات الرئاسية الفرنسية المقرر انعقادها في عام 2022، في ظل الأصوات الفرنسية المعارضة للوجود الفرنسي في منطقة الساحل، والمتسائلة عن طبيعة المكاسب التي جنتها باريس جراء الانخراط في منطقة الساحل بعدما فقدت نحو 50 جندياً منذ بداية عام 2021. كما يفسر تصاعد هذا الدافع اتجاه باريس لغلق قواعدها في المناطق الشمالية المالية، بعدما سجلت باريس وقوع نحو 80% من خسائرها البشرية في مالي.
2- استبدال الحليف الفرنسي بنظيره الروسي عبر مجموعة “فاجنر”: لم يكن التأكيد الفرنسي على أن قرار إنهاء عملية “برخان” لا يعني الانسحاب الكامل من منطقة الساحل وأن الخطة الفرنسية تشير إلى بقاء نصف قواتها في المنطقة، وإنها ستواصل محاربة التنظيمات الإرهابية وتعزز قوة “تاكوبا” الأوروبية، وكذلك القوة الأفريقية المشتركة والقوة الأممية، كافياً لقيادات مالي لفك الارتباط بين قرار إنهاء عملية “برخان” وبين الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، وهو ما دفع باماكو للبحث عن حليف استراتيجي بديل لنظيره الفرنسي الذي تخلى عنها في أدق اللحظات، وفقاً لرؤيتها، وعبّر عن ذلك رئيس وزراء مالي مايغا خلال خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة قائلاً:”الوضع الجديد الذي نشأ بسبب انتهاء برخان، والذي يضع مالي أمام أمر واقع ويُعرّضها لما يشبه التخلّي في منتصف الطريق، يقودنا إلى استكشاف السبل والوسائل لكي نضمن على نحو أفضل الأمن مع شركاء آخرين“، مشيراً إلى أن المطلوب هو “ملء الفراغ الذي سينشأ حتماً عن إغلاق بعض مواقع برخان في شمال مالي”.
وقد حاول مايغا في كلمته الإشارة إلى الأسباب التي دفعت باماكو إلى الإعلان على لسان وزير دفاعها في 14 سبتمبر 2021 عن إجراء محادثات مع شركة “فاجنر” العسكرية الخاصة، كسبيل لتخفيف حدة الانتقاد الأوروبي لاتخاذ تلك الخطوة، التي تهدف إلى نشر نحو 1000 عنصر من قواتها في مالي بهدف حماية كبار الشخصيات السياسية وتدريب قوات الأمن، وملء فراغ الانسحاب الفرنسي، نظير الحصول على 6 مليارات فرنك أفريقي أي ما يُعادل 10.8 مليون دولار سنوياً، وهى فاتورة ثقيلة اتساقاً مع قدرات مالي المتواضعة مما يُشير إلى حصول “فاجنر” على امتيازات في مناطق التعدين المالية، على غرار تدخلاتها في موزمبيق وأفريقيا الوسطى.
وعلى الرغم من محاولات توضيح مالي لحقيقة موقفها من الارتكان إلى الحليف الروسي، إلا أن تلك الخطوة أثارت استياء باريس التي اتجهت لحشد الدعم الأوروبي الرافض لتلك الخطوة، مع إطلاقها أربعة تحذيرات بهدف الضغط على مالي لتجميد أية خطوات تصب نحو توقيعها تلك الصفقة: أولها؛ ما جاء على لسان وزير خارجية فرنسا جان إيف لودريان بأن أي اتفاق بين مالي ومجموعة “فاجنر” سيكون “متنافياً” مع بقاء قوة فرنسية في باماكو وسيقوض من الجهود الفرنسية لمكافحة الإرهاب في الساحل. وثانيها؛ استدعاء باريس لتجارب مجموعة “فاجنر” في أفريقيا الوسطى وسوريا وما ارتكبته من تجاوزات وانتهاكات حقوقية لن تكون مالي في منأى عنها بتوقيع تلك الصفقة. وثالثها؛ التحذير من أن توقيع الاتفاق سيترتب عليه الانتقاص من سيادة مالي والسماح لموسكو بالتدخل في شئون باماكو الداخلية وتوجيه سياستها. ورابعها؛ التهديد بمواجهة مالي “عزلة دولية” ذات أبعاد اقتصادية وأمنية في ضوء الاستياء والرفض الأوروبي لتلك الخطوة، وما لذلك من انعكاسات على دور ونشاط قوة “تاكوبا” الأوروبية لمكافحة الإرهاب في مالي.
تداعيات عدة فرضها الخلاف الفرنسي- المالي سواء في الداخل المالي أو على أمن منطقة الساحل، وكذلك على اتجاهات العلاقات “الساحلية” البينية، ويمكن تناول ذلك على النحو التالي:
1- تسببت المقارنة الفرنسية الجديدة لمكافحة الإرهاب في منطقة الساحل والقائمة على الانسحاب الجزئي وإعادة تموضع القوات في المنطقة بمنح أفضلية لدول على غيرها، في إضعاف العلاقات “الساحلية” البينية، في ظل محاولات ماكرون استقطاب دعم دول أفريقية لموقفه من توقيع مالي اتفاق مع مجموعة “فاجنر” الروسية، وكذلك حرص عدد من دول الساحل على تعزيز تقاربها مع باريس، وهو ما يكشفه ترحيب رئيس النيجر محمد بازوم بالدعم والتدريب العسكري الفرنسي، بعدما وقع على النيجر الاختيار لتكون بمثابة نقطة ارتكاز للقوات الفرنسية في الساحل، وإعراب وزير خارجية النيجر حسومي مسعودو عن رفضه دخول المرتزقة المنطقة، باعتبار أن ذلك سيؤدي إلى زيادة تدهور الوضع الأمني.
2- ربما يؤدي ذلك إلى تنامي عمليات التنظيمات الإرهابية في منطقة الساحل عموماً وفي مالي على وجه الخصوص، لاسيما في ظل ما يمكن أن يحدث من انشقاق في العلاقات “الساحلية” البينية ينعكس في دور ونشاط وفاعلية تكتلاتها الإقليمية لمكافحة الإرهاب؛ حيث أن إعادة شغل مجموعة “فاجنر”- في حال توقيع الاتفاق– قواعد تمركز القوات الفرنسية في مالي، سيحتاج مزيداً من الوقت لإحكام سيطرتها في ساحة الميدان وعلى أرض الواقع، لاسيما في ظل اتجاه القوى الأوروبية لإعادة النظر في مشاركة قواتها في مكافحة الإرهاب فى مالى والذي قد يفضي – في حال عدم الانسحاب- إلى تخفيض مستوى التعاون الأمني والاستخباراتي، مما يُنذر باتجاه مالي نحو مزيد من الفوضي وتعاظم تهديدات التنظيمات الإرهابية وبالتالي إمكانية استعادة سيناريو أفغانستان في باماكو، أو على الأقل عودتها لنقطة الصفر في عام 2012.
3- تعزيز قدرة موسكو على طرح نموذج بديل للنماذج الفرنسية والأوروبية والأمريكية في تحقيق الاستقرار في المنطقة، واتساع دائرة التنافس الروسي- الأوروبي- الأمريكي لتشمل أفريقيا إلى جانب منطقة الشرق الأوسط وأوروبا، بالتوازي مع احتمال امتداد المرحلة الانتقالية المالية في ظل التقارب الروسي مع قادة المجلس العسكري المالي.
انطلاقاً من ذلك، فإنه وفقاً لما تفرضه البيئة الأمنية والسياسية في مالي وفي منطقة الساحل من مخاطر، يبدو أن الخيارات الفرنسية- الأوروبية للتعامل مع الاتجاه المالي نحو الحليف الروسي ممثلاً في مجموعات “فاجنر” الروسية، محدودة للغاية وتتطلب أخذ باريس والعواصم الأوروبية في اعتبارها تداعيات الانسحاب ميدانياً على أمن الساحل الأفريقي وعلى الأمن الأوروبي، في ظل المسئولية الأوروبية بتأمين الخاصرة الجنوبية لأوروبا، والالتزام بعدم السماح لمنطقة الساحل، وأفريقيا بشكل أوسع، بأن تصبح منطقة لجوء وتوسُع للتنظيمات الإرهابية.
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر