سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
فهد سليمان الشقيران
التحولات التي شهدها العالم في الثلث الأخير من القرن العشرين، جعلت المشهدية أكثر انشداداً نحو المآلات التي ستجلبها العولمة. تصاعدت سطوة الصورة، وسط انشداهٍ من تقارب الأمم عبر الاتصالات التي باتت بدائية اليوم… تلفزيونات ومجلات وصحف.
نشط النقاش حول العولمة، وكثر الحديث عن ذوبان المساحات، مع تداول وتناقل التباشير حول الشبكة العنكبوتية… ارتبطت تلك المرحلة بما عرف لاحقاً بـ«تصاعد الذروات»؛ إذ يبدو كل شيء قد اكتمل، وما عاد أمامه سوى التحوّل، أو التلاشي والاندثار.
ولذلك ارتبطت العولمة بـ«أحاديث النهايات» كما رصدها علي حرب في كتابٍ طبع في أبريل (نيسان) 2001، ولذلك أقول إن النهايات لا تعني في الكتابات والمؤلفات غالباً إلا تصدّع القمم، وانتهاء الذروات، لذلك أضرب مثلاً بأطروحات تحوّل الجغرافيا في العالم المعاصر لما يشبه «نهاية الجغرافيا» لبيتر تيلور، أو «نهاية الحداثة» لدى جياني فاتيمو، أو «نهاية اليوتوبيا» عند راسل جاكوبي… وقل مثل ذلك عن «نهاية التاريخ» لفوكوياما.
«ثيمة النهايات» تلك لم تنته؛ إذ بقيت ضمن أطروحاتٍ تتقصى الظواهر، وتتفحص الانشقاقات، وتلاحظ مسار الذروات، كما فعل عدد من الباحثين حول الإسلام السياسي؛ فهو تارة في حكم «المابعد» لدى باحث مهم مثل آصف بيات في «ما بعد الأسلمة»، وأخرى يعتني بالتبشير بـ«نهاية الإسلام السياسي»، كما ينظّر أوليفيه روا منذ سنوات.
ينافح أوليفيه روا بمثابرة وعناد عن «تلاشي الإسلام السياسي»، نقرأه بوضوح في فصولٍ من كتابه: «الإسلام والعلمانية». وجدد الباحث التذكير بتحليله في الأسبوع الماضي. روا في «منتدى ريميني للصداقة بين الشعوب» المنعقد في إيطاليا – نشرت الصحف ملخصاتٍ عنه – رأى أن «مشروع الإسلام السياسي محكوم عليه بالفشل، وعلى الصعيد العالمي يمكن القول إن الجهاد باسم الإسلام المتطرف قد انتهى. وهذه الجماعات الجهادية يقتصر وجودها على الصراعات المحلية، وسيكون مصيرها الفشل أيضاً. إن ميلاد التيار الإسلامي جاء ردَّ فعل على وجود جماعات مثقفة سعت إلى خلق نموذج للتحديث والاستقلال يماثل النموذج الغربي، لذلك عمدت بعض القيادات إلى الاستيلاء على الإسلام وتحويله إلى مشروع آيديولوجي سياسي، وكانت ذروة النجاح في حدوث الثورة الإيرانية عام 1979». يتابع: «إن ظهور جماعات التطرّف الديني كان نتيجة فشل مشروع الإسلام السياسي الذي بدأ في بداية القرن العشرين. كما أن ولادة جماعات التطرّف الديني ثمرة فشل مشروع الإسلام السياسي الذي بدأ في نهاية القرن العشرين، والإسلام السياسي استوحى انغلاقه من الآيديولوجيات التي كانت مهيمنة لحظة ظهوره، مثل الفاشية والشيوعية، وهو لا يختلف عنها في هذا الجانب، ومن هنا نشأت الأفكار عن الدول الإسلامية وأهمية وجود دستور إسلامي على نقيض من الدول المدنية».
ثم يعدّ روا أن «هذه الجماعات المتطرفة سعت لترويج مشروعها السياسي دون الحرص على ترويج القيم الروحية للإسلام، وجماعات الإسلام السياسي نشطت في ظل غياب مشروعات الإصلاح والتجديد الديني».
رغم أهمية بحوث روا، فإنها منساقة وراء «انطباعات قبْلية» وَسَمَت جلّ أبحاثه حول الإسلام السياسي، فضلاً عن مداخلاته في التطرف الديني أو عنف الحركات الأصولية وعلل ممارساتها الإرهابية، ليست خلفية الباحث اليسارية وحدها التي فعّلت من نتائجه الغريبة أحياناً، بل وموقفه المتأصل من حكوماتٍ معينة بوصفها مستحيلة التطور، وسبب كل الشرور، وهذا اتجاه ينقص من قيمة نتاج أي باحث.
إنه لأمر كارثي أن يتبنى روا أطروحة نهاية ظاهرة داخل الإطار الأصولي، سواء كانت على مستوى آيديولوجي، أو حركي ميداني. والأخطر أن يفصل «الحركات الإسلامية المثقفة»؛ (يعني هنا بالطبع جماعة الإخوان المسلمين)، ويُرجع سبب ظهور التطرف إلى فشلها في تحقيق «الإصلاح، وتجديد الخطاب الديني»! وفي هذا جهل بدور حركة الإخوان المسلمين في تأسيس نواة التشكيل الأول لجماعات التطرف في تاريخ «حركات الجهاد» في العصر الحديث، لكنه يحيل إلى «الإخوان» فقط «نجاح الثورة الإيرانية».
وحين ناقش أوليفيه روا طرح الشيخ محمد العيسى؛ الأمين العام لـ«رابطة العالم الإسلامي»، قال روا: «هناك موجات من التطرف الديني في العالم الإسلامي جاءت نتيجة تسارع وتيرة العلمنة في هذه المجتمعات، ومثل هذا النوع من العلمنة المتطرفة يقود إلى تطرف مضاد»، ومن العجب أن يصدر هذا التحليل عن أستاذ مثل روا، لأن هذه العبارة لاكَتْها ألسن المنظّرين «الإخوان» منذ المودودي والندوي؛ إلى فتحي يَكَن وأنور الجندي ومحمد قطب والصاوي… إنه لتحليل مثير للاستغراب أن يُرجع سبب ظهور جماعات تقطع الرؤوس، وتحرق الأحياء، وتجتث الأقليات، إلى قصة تطوير معين، أو تنمية محددة، أو نموذج سياسي غير تقليدي.
الغريب أن روا بكتبه التي بات كثير من نتائجها مملاً ومكرراً لا يقرأ الظاهرة الأصولية إلا بوصفها نقيضاً للغرب، أو مناوئة لنماذج العلمانية في الدول العربية والإسلامية، بل ويعدّ حركة الإخوان المسلمين مرشحة لصوغ إصلاح في الدين أو تجديد في الشريعة، هذا هو المشكل الأبرز في المنطلقات التي اتخذها هو منذ أوائل تحليلاته قبل 40 عاماً.
السؤال الأساسي: كيف يمكن لباحثٍ أن يناقش تاريخ نشأة «القاعدة» و«داعش» و«حزب الله» وحركة «حماس» من دون دراسة علاقات رموزها وتشكيلاتها وآيديولوجياتها، بحركة الإخوان المسلمين؟! ولماذا يناقش هذه الظواهر بوصفها ردَّ فعل على هيمنة الغرب، واستبداد الحكومات، وتبني النموذج العلماني؟!
النقاش يطول، ولكن روا هذه المرة يطرح «نهاية الإسلام السياسي» في وقتٍ مبكر… لم تنته المعركة بعد، وقد شهد هو مجازر «شارلي إيبدو» و«باتكلان» و«نيس».
إن أوليفيه روا يأتي ضمن جمع من الأسماء التي تفرح بكتاباتها وأطروحاتها الفانتازيّة جماعات الإسلام السياسي.
المصدر: صحيفة الشرق الأوسط
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر