سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
الحرب هي شرعة الكون، مقولة أثبتها التاريخ، حتى باتت من المقولات التي لا تقبل الجدل. فمنذ القدم، تنافس البشر على مواقع الكلأ والماء. وأدى ذلك التنافس، إلى اشتعال الحروب وانهاء مرحلة المشاعية، وبروز الملكية الفردية، وطفوح ظواهر جديدة كالعبودية والإقطاع. لكن تلك الحروب، رغم ضراوتها، بقيت محدودة في أهدافها واستراتيجياتها، ونوعية الأسلحة المستخدمة فيها، حتى قيام الممالك والامبراطوريات.
وبمرور الزمن، تفنّن الإنسان، أكثر فأكثر في اختراع وسائل قتل جديدة. وكانت الثورة الصناعية، نقلة نوعية في هذا المضمار. وكانت الحروب داخل القارة الأوروبية، هي الأكثر ضراوة وحدّةً في التاريخ الإنساني، حيث بات الحديث عن حرب المئة عام، وعن نظريات الدورة التاريخية في الحروب، التي اتخذت من القارة الأوروبية، في كثير من الأحيان، مجال تطبيق دراساتها.
ويكفي في هذا السياق، الإشارة إلى أن الحربين العالميتين، الأكثر هولاً ودماراً في تاريخ البشرية، أخذتا مكانهما في القلب من القارة الأوروبية، وكان دور بقية دول العالم فيهما دوراً ملحقاً أو هامشياً. فالحرب العالمية الأولى، على سبيل المثال، شنّت من قبل الأوروبيين، للإجهاز على الرجل المريض بالآستانة. وقد انحازت ألمانيا لتركيا في تلك الحرب، على أمل هزيمة غرمائها البريطانيين والفرنسيين والروس، لكن توازنات القوة لم تكن في صالحهما، وانتهت الحرب بهزيمة للألمان والأتراك، وسقوط السلطنة العثمانية.
والحرب العالمية الثانية، كانت بين دول المحور: ألمانيا وإيطاليا واليابان، في مقابل الحلفاء الأوروبيين، بريطانيا وفرنسا وبلجيكا والنمسا، ثم التحق بها الاتحاد السوفييتي، وبالأيام الأخيرة، انضمت الولايات المتحدة. وحين حسمت الحرب، كان المنتصرون فيها هم الذين التحقوا بها بعد اندلاعها بفترة زمنية يعتد بها، ولم يكونوا بالأساس من صناعها. وحين تأسست الأحلاف العسكرية، بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، فإن الثقل فيها لم يكن للاستعمار التقليدي، بل للقوتين الصاعدتين: الولايات المتحدة وأسست حلف الناتو، والاتحاد السوفييتي مؤسس حلف وارسو. وفي الحالتين، كان التراجع الأوروبي، في موازين القوة الدولية واضحاً، رغم أن القارة الأوروبية، هي مسرح الحرب.
ويصدق هذا الكلام من جانبنا، على الوحدة الأوروبية، التي ما كان لها أن تتحقق لولا مشروع مارشال الأمريكي لإعادة إعمار القارة الأوروبية، بعد الحرب العالمية الثانية. فقد أرسى ذلك المشروع، قواعد تأسيس السوق الأوروبية المشتركة، ولاحقاً الاتحاد الأوروبي.
بمعنى آخر، إن قيام الاتحاد الأوروبي، ليس صناعة محلية، ولم يتحقق بإرادة ذاتية، ولكنه كان عنصراً أساسياً في الحرب الدائرة، بين الشرق بقيادة روسيا، والغرب بقيادة أمريكا. وقد نجحت الإدارة الأمريكية في تحويل حالة العداء بين فرنسا وألمانيا، إلى حالة تكامل اقتصادي بين البلدين، شملت مقدماته، التنسيق والتكامل في مجالي الحديد والصلب.
السؤال الجوهري، الذي نطرحه في هذا السياق، هو عن مستقبل الوحدة الأوروبية، أمام التغيرات الكبرى، في موازين القوى الدولية، بعد عودة روسيا بقوة للمسرح الدولي، وبروز الصين الشعبية كقوة اقتصادية عالمية، لا تضاهى. هل ستحتفظ الولايات المتحدة، بقدرتها على توفير مظلة حماية نووية للقارة الأوروبية، في ظل تراجع قوتها الاقتصادية. طرح هذا السؤال ليس من قبيل الرياضة الذهنية، فقد سبق وأن تعرض له بوضوح، الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، حين طالب القادة الأوروبيين، بأن يدفعوا لبلاده، مقابل حماية المظلة النووية لبلادهم. وهل يكون البديل، هو بروز النزعات الاستقلالية لهذه الدول، والنأي رويداً رويداً عن السياسة الأمريكية.
هناك توقعات، بأن تتعزز النزعات الاستقلالية التي دشنها الرئيس شارل ديغول في فرنسا، وأن تنحو عدد من الدول الأوروبية المنحى الفرنسي. وهناك توقعات بأن تتعزز علاقة أوروبا الشرقية بروسيا، وأن يبرز الدور السياسي للصين الشعبية، على الساحة الدولية، بعد أن كان لفترة طويلة مقتصراً على الجانب الاقتصادي. نحو أمام تغيرات سياسية كبرى، في القارة الأوروبية، يتوقع أن تأخذ مكانها بالتراكم، وليس بالضربة القاضية، وما علينا سوى الانتظار.
المصدر: الخليج