لم تمض عشرةُ أيام على بدء عام الأرنب القمري حتى تصاعد التوتر بين واشنطن وبكين إثر إعلان رصد منطاد صيني في أجواء الولايات المتحدة. تعامل الأميركيون معه على أساس أنه مُرسل للتجسس.
ولم تُقنعهم رواية الصين التي أفادت أنه مخصص للبحث العلمي، ودخل المجال الجوي الأميركي من دون قصد. وطاردته طائرات “إف-22” إلى أن أسقطته إحداها بواسطة صاروخٍ أُطلق عليه في 4 فبراير/ شباط الجاري. وردت بكين بأنها رصدت أكثر من عشرة مناطيد أميركية في أجوائها، وقريبًا منها، منذ مطلع 2022. ومن الطبيعي أن يحدث اشتباك لفظي في مثل هذه الأجواء، وخاصة إثر هجوم بايدن المحسوب على بكين في خطاب حالة الاتحاد في 7 فبراير.
وهكذا خالفت أزمة المنطاد، حتى الآن، البُشرى التي حملها العام القمري الصيني الجديد الذي بدأ في 22 يناير/كانون الثاني. يتميز عام الأرنب، وفق المُعتقد الصيني، بأنه عام السلم والهدوء. وعندما بدأ كانت هناك مؤشرات إلى أنه قد يكون له من بعض سماته نصيبُ على صعيد العلاقة مع واشنطن. كان وزير الخارجية الأميركي بلينكين يستعد لزيارة بكين، وكذلك وزيرة الخزانة جانيت بيلين، بعد تحسن نسبي في العلاقات أعقب لقاء الرئيسين جو بايدن وشي جين بينغ على هامش قمة “الآسيان” في بالي فى 14 نوفمبر /تشرين الثاني الماضي. فقد صارت الأجواء، عقب ذلك اللقاء، أفضل مما كانت في الفترة التي سبقته منذ زيارة رئيسة مجلس النواب الأميركي السابقة نانسي بيلوسي إلى تايوان في أول أغسطس/آب. بدا لقاء بالي تصالحيا، وأعلن بايدن أنه لن تكون هناك حرب باردة مع الصين، وعبر جيبينغ عن تفاؤله.
غير أن أزمة المنطاد غيَّرت تلك الأجواء، وأعادت التوتر، الأمر الذي يثير السؤال مُجدَّدا عن المسار المحتمل للعلاقات الأميركية-الصينية في الفترة المقبلة. ومن الطبيعي أن تتعدد إجابات هذا السؤال، وتتباين تاليا السيناريوهات المتصورة في كل منها.
ولكن في أي من التوقعات الارجح في هذه السيناريوهات، لا يبدو قريبا حدوثُ تدهور شديد في العلاقات يضع الدولتين على حافة هاوية، سواء بسبب أزمة تايوان، أو لتصاعد النزاع بين بكين وبعض جيرانها خاصةً الفيليبين في بحر الصين الجنوبي، أو نتيجة اشتداد التنافس على النفوذ في شرق آسيا ومنطقة المحيطين الهندي والهادئ، أو بسبب حرب أوكرانيا. ويعود ذلك إلى المنهج الذي يتبعه كل من الدولتين في إدارة ما تُفضلان تسميته تنافسًا وليس صراعا بينهما. لهذا، نلاحظ أن بلينكين حرص على توضيح أن زيارته إلى بكين مؤجلة وليست مُلغاة، وأن بلاده حريصة على قنوات الاتصال مع الصين. وربما كان تأجيل الزيارة مفيدا للدولتين وللعلاقات بينهما لكي لا تطغى أزمة المنطاد على المحادثات خلالها.
صحيح أنه ليس هناك ما يمنع وقوع هذا صدام صيني – أميركي إذا اكتملت دوافعه لدى طرفيه، أو أحدهما. ومع ذلك يمكن للمصالح المشتركة أن تقلل احتمال حدوث صدام يقود إلى حرب عندما تصل إلى مستوى الاعتماد المتبادل، كما هو حال العلاقات بين الصين والولايات المتحدة الآن.
والأرجح، في ضوء المعطيات الراهنة، أن يبقى سقف التنافس-الصراع الصيني-الأميركي عند حدود آمنة، وأن تظل الأزمات المتكررة التي تحدث في إطاره قابلة لاحتوائها أو السيطرة عليها، بخلاف ما حدث في الصراع الأميركي (والغربي عمومًا)-الروسي في نهاية 2022 ومطلع العام الجاري، وقاد إلى نشوب الحرب في أوكرانيا.
أولوية الاقتصاد والتجارة
يستند توقع اتجاه كل من واشنطن وبكين إلى احتواء أزمة دخول المنطاد الصيني الأجواء الأميركية، ثم إسقاطه، إلى المستوى الذي بلغته العلاقات التجارية والاستثمارية بينهما، على نحو يخلق مصالح مشتركة تفرض التفكير مراتٍ عدة، لا مرتين اثنتين فقط، قبل اتخاذ أية خطوة قد تقود إلى صدام.
صحيح أنه ليس هناك ما يمنع وقوع هذا الصدام إذا اكتملت دوافعه لدى طرفيه، أو أحدهما، وفق ما نعرفه من تاريخ طويل حارب فيه البشر بعضهم البعض في كل أزمانه، ومازالوا. ومع ذلك يمكن للمصالح المشتركة أن تقلل احتمال حدوث صدام يقود إلى حرب عندما تصل إلى مستوى الاعتماد المتبادل، كما هو حال العلاقات بين الصين والولايات المتحدة الآن.
ويتجلى هذا الاعتماد في التبادل التجاري الذي وصلت قيمته إلى نحو 760 مليار دولار في نهاية 2021. وكان ممكنا أن تزيد عن ذلك لولا آثار الحرب التجارية التي بدأها الرئيس السابق دونالد ترامب عام 2018، وتداعيات الجائحة خاصةً في الفترة التي اتبعت فيها بكين سياسة “صفر-كوفيد” عندما ازدادت المشاكل في سلاسل الإمداد. فكلما ازداد التبادل التجاري، يكتسب التنافس طابعا تعاونيا بحكم الأمر الواقع إلى جانب سمته الصراعية. وهذه قاعدة عامة يمكن الاستثناء منها بطبيعة الحال. لكن احتمال هذا الاستثناء في الحالة الأميركية-الصينية محدود في الوقت الراهن. فقد بات صعبا فصلُ الاقتصادين بعد أن تشابكا بدون أن يتكبد كل منهما خسائر باهظة.
غير أن هذه الصعوبة الواضحة في الأجل المنظور، أو حتى أوائل 2025 تحديدا، قد لا تكون كذلك بعده إذا تمكنت الولايات المتحدة من تقليل علاقاتها التجارية والاستثمارية، مع الصين، وفق توقع مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية بواشنطن في دراسة حديثة أعدها. لكن إذا حدث هذا، حسب الدراسة، سيكون ببطء كما لو أنه تسربُ حباتٍ رمل من كيس ضخم، سواء على صعيد التبادل التجاري، أو على مستوى نقل بعض الاستثمارات الأميركية في الصين إلى بلدان أخرى.
ويرتبط هذا التوقع بدروس حرب أوكرانيا. فأحد هذه الدروس يدفع الولايات المتحدة للسعي إلى تجنب أن تجد نفسها ذات يوم في موضع من النوع الذي وُضعت فيه أوروبا بسبب اعتمادها المُفرط على الغاز الروسي، مع الفارق بطبيعة الحال. غير أنه باستثناء شروع بضع شركات أميركية في نقل أعمالها من الصين إلى فيتنام والمكسيك، لم يظهر في البيانات المتوافرة عن عام 2022 ما يدل على تغير ملموس في أنماط العلاقات التجارية والاستثمارية، بما في ذلك استثمار الصين في السندات وأذون الخزانة الأميركية. كما أن نقل شركات أميركية نشاطاتها من الصين إلى المكسيك يعود، في جانب منه، إلى مشاكل سلاسل الإمداد وآثارها على أسعار الشحن. وبسبب هذه المشاكل، وسعيًا للاستفادة من اتفاقية التجارة الحرة بين مكسيكو وأوتاوا وواشنطن، تتجه شركات صينية أيضا لنقل بعض مصانعها إلى المكسيك.
ولهذا، وغيره، فالقدر المتيقن اليوم أن الدولتين لا تتجهان إلى صدام في الأجل المنظور، مع عدم استبعاد حدوث تغير في اتجاههما هذا في مدى زمني أطول نسبيًا.