سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
محمد المنشاوي
قبل ثلاثة أرباع قرن تساءلت واشنطن «من تسبب فى خسارة الصين؟» واليوم يُعاد طرح السؤال فى إطار تاريخى مختلف بصورة كلية عما كان عليه الوضع العالمى عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية. شهد عام 1949 حسم الحزب الشيوعى الصينى بقيادة ماو تسى تونج الحرب الأهلية الصينية بعد انتصاره على الحزب القومى الصينى المعروف باسم الكومينتانج، بقيادة شيانج كاى شيك. دعمت واشنطن الكومينتانج، وساعدتهم على نقل بقايا حكومتهم وقواتهم العسكرية إلى تايوان فى نفس العام. لم تعترف واشنطن بحكومة الحزب الشيوعى فى بكين العاصمة، واستمرت فى الاعتراف بحكومة الكومينتانج كممثل شرعى للشعب الصينى لعقود.
ومثّل وصول الشيوعيين للحكم فى الصين صدمة ضخمة فى واشنطن، إذ تزامن ذلك مع بدء إرهاصات الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفيتى الذى فجر قنبلته النووية الأولى قبل سيطرة ماو على الحكم. خشيت واشنطن من تعاون وتحالف الاتحاد السوفيتى مع النظام الشيوعى الجديد فى الصين، وهو ما تم لاحقا. دفع ذلك نخبة واشنطن لطرح سؤال «من تسبب فى خسارة الصين؟»، وكيف أخطأت واشنطن فى حساباتها وتوقعاتها ولم تتحسب لوصول الشيوعيين للحكم فى بكين؟.
شهدت واشنطن لعبة إلقاء اللوم خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضى على من تسبب فى خسارة الصين، وساهمت عدة عوامل فى بقاء السؤال حيا لسنوات طويلة، ومن هذه العوامل أهمية الصين الكبيرة كونها أكثر دول العالم سكانا، ولقوة نفوذها فى القارة الآسيوية، وهو الأمر الذى من شأنه أن يضاعف التهديد الشيوعى الذى فرضه الاتحاد السوفيتى بالفعل. كما زاد السيناتور جوزيف مكارثى من مخاوفه من الصين الشيوعية فى حملته الغوغائية ضد الأمريكيين الذين اتهمهم بالتعاون مع القوى الشيوعية، وتسببت المكارثية فى حالة من الذعر بين الساسة والأشخاص المثقفين.
خلص تحقيق أجرته اللجنة الفرعية للأمن الداخلى فى مجلس الشيوخ، تم حلها منذ ذلك الحين، إلى إلقاء اللوم على الأكاديميين والدبلوماسيين ذوى الميول اليسارية. لم يدم تقارب القوتين الشيوعيتين الأكبر فى العالم، الصين والاتحاد السوفيتى، لسنوات طويلة، وما لبس أن اصطدمت بكين بموسكو حول التعريف الأمثل للشيوعية. ثم انخرطت الدولتان فى نزاعات حدودية عسكرية مسلحة عام 1969، زادت من الفجوة بين القطبين الشيوعيين، وهو ما سبب ارتياحا كبيرا فى واشنطن. استغل وزير الخارجية الأسبق هنرى كيسنجر هذا الشرخ ليقوم بدبلوماسية سرية نتج عنها التوصل لتفاهمات أميركية صينية تغيرت معها خريطة العالم بصورة دراماتيكية. كما زار الرئيس ريتشارد نيكسون الصين عام 1972 مؤسسا لعلاقات جديدة، واعترف لاحقا بالنظام الشيوعى الحاكم فى بكين كممثل وحيد للشعب الصينى.
أكدت واشنطن تبنى سياسة «صين واحدة»، لكنها فى الوقت نفسه تحتفظ بعلاقات غير رسمية مع تايوان بعدما ألغت اعترافها بها عام 1979. وأصدر الكونجرس فى نفس العام قانون «العلاقات مع تايوان» حيث تعهدت واشنطن بالمساعدة فى تجهيز تايبيه للدفاع عن نفسها. أقر الكونجرس أيضا عدة قوانين سهلت وسمحت بتسليح تايوان لتدافع عن نفسها، كما دعمت التعاون الثنائى معها فى جميع المجالات، على الرغم من قطع العلاقات الدبلوماسية الرسمية بينهما.
عادت واشنطن أخيرا لطرح سؤال «من تسبب فى خسارة الصين؟» بصيغة جديدة فى إطار صعود الصين الصاروخى لتصبح مصنع العالم، وصاحبة ثانى أكبر اقتصاد عالمى، فى وقت يضيق فيه الفارق التكنولوجى والعسكرى مع الولايات المتحدة.
يلقى الجانب الأمريكى باللوم على نفسه بسبب ما حدث تحديدا منذ 2001، وهو العام الذى يُعد علامة فارقة فى تاريخ صعود الصين للحاق بالولايات المتحدة، إذ شهد انضمام الصين لمنظمة التجارة العالمية، فى الوقت الذى عرفت فيه أميركا هجمات 11 سبتمبر.
دفع دخول الصين للمنظمة التجارية العالمية واستغلالها رخص الأيدى العاملة الماهرة والضخمة فى جذب ملايين المستثمرين، لتنطلق الصين وتنجح فى تحقيق معدلات نمو متوسطها 8% خلال الـ20 عاما الماضية. على النقيض، تورطت أمريكا فى حربها العالمية ضد الإرهاب والذى جرها لحربين مكلفتين فى أفغانستان والعراق خرجت منهما قبل عامين. وتشير دراسة بحثية مشتركة صدرت عن جامعة براون المرموقة، إلى وصول تكلفة الحروب منذ هجمات 11 سبتمبر وحتى نهاية العام المالى 2021 إلى 6.4 تريليون دولار، ناهينا عن التكلفة البشرية ومئات الآلاف من الضحايا الأفغان والعراقيين الأبرياء. بينما لم تعرف الصين التورط فى أى نزاعات عسكرية منذ انتهاء نزاع حدودى مع فيتنام عام 1979، وإن كانت تتبنى استراتيجية توسع فى بحر جنوب الصين، مما أجج خلافات على الحدود البحرية مع إندونيسيا والفلبين وفيتنام.
تصورت واشنطن أن تبنى الصين لاقتصاديات السوق سيخلق طبقة وسطى عليا، ويسرع من تبنى الصين نموذجا ديمقراطيا ليبراليا، وهو ما لم يحدث على الإطلاق. بل قويت شوكة الحزب الشيوعى منذ وصول الرئيس شى للسلطة، فى وقت تنعدم فيه أى أفق لانفتاح سياسى.
يكتسب اليوم سؤال «من تسبب فى خسارة الصين؟» بعدا مثيرا فى علاقات واشنطن مع الصين، القوة الثانية فى عالم اليوم، فى وقت تشهد فيه علاقاتهما توترات لا تتوقف منذ ظهور فيروس كوفيد 19، وزيادة الأنشطة العسكرية الصينية بالقرب من تايوان. جدد الغزو الروسى لأوكرانيا النقاش حول رد فعل واشنطن إذا أقدمت الصين على خطوة مشابهة. ومع إحجام إدارة الرئيس جو بايدن عن التدخل العسكرى المباشر فى أوكرانيا، زادت الشكوك حول ما إذا كانت واشنطن ستساند تايوان إذا تعرضت لموقف مشابه لما تتعرض له أوكرانيا حاليا مع تبنى واشنطن سياسة «الغموض الاستراتيجى» فيما يتعلق بإمكانية تدخلها عسكريا لمنع الصين من ضم تايوان. ويتزامن ذلك مع إصدار الرئيس الصينى شى جين بينج تعليمات لقيادته العسكرية بأن تكون جاهزة بحلول عام 2027 لشن حرب إعادة ضم تايوان للبيت الصينى.
دفع ذلك واشنطن لتتساءل للمرة الثانية «من تسبب فى خسارة الصين؟»، وظهر ذلك جليا فى تشكيل لجنة خاصة تركز على «الحزب الشيوعى الصينى»، وعلى التحدى التكنولوجى والصناعى والعسكرى الذى أصبحت الصين تمثله للولايات المتحدة. مع اقتراب الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقبلة، فمن المرجح أن تستمر سياسات الحزبين تجاه الصين فى التقارب، كما يتوقع، أن تصبح العلاقات مع الصين ضحية الهستيريا المرتبطة بعدم رغبة أى طرف فى الإجابة على سؤال ليس له إجابة.
المصدر: الشروق
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر