ألو بغداد | مركز سمت للدراسات

ألو بغداد

التاريخ والوقت : الخميس, 26 أكتوبر 2017

تركي بن صالح العتيبي

 

لهذه العاصمة حب وحنين في وجدان الإنسان العربي، ذاكرة ملأى بالانتصارات والقوة والثقافة والتنوع.. بغداد المنصور والرشيد والمأمون والمعتصم، بغداد أبي نواس وأبي تمام و(عيون المها بين الرصافة والجسر)، بغداد التي نهضت بعد هولاكو وأرغمت الخميني على احتساء كأس السم، تلك المدينة العربية العريقة لا يمكن، إلا أن تكون عربية، ولن يكون هواها، إلا عربيًا، وهي ذاهبة للتطهر من دنس المتسلقين على أسوارها، إلى حضن عروبتها الدافئ.

 

البدلة والبسطار

 

عندما سقط الطاغية صدام بعد عملية عسكرية أميركية، كانت إدارة الحكم في العراق ضبابية.. هناك أحزاب معارضة جاءت على ظهر الدبابة الأميركية، وهناك قوى معارضة ذات وجود فعلي في الأرض، كان الطيف الشيعي هو الأغلب، ثم يأتي الكرد كمكون عراقي قديم، وهم جزء من شعب كردي يتوزع بين العراق وسوريا وتركيا وإيران. العرب السنة كانوا في وضع ضعيف وملتبس، باعتبارهم أهل السلطة التي نزعت (في نظر الفرقاء العراقيين طبعًا). عرض الأميركان مجلسًا للحكم بإشراف الحاكم الأميركي (بول بريمر)، كان بريمر يعبر عن الصورة النمطية للمحتل، التي عززها بارتدائه بدلة مدنية مع بسطار عسكري، كانت تلك إشارة واضحة لشكل المرحلة السياسية ومضمونها.

 

حل الجيش واجتثاث البعث .. سد مأرب الذي انهار

 

كان حل الجيش العراقي واجتثاث البعث، قرارين كارثيين بكل ما تعنيه الكلمة (عظيمين)، واستمر تأثيرهما على العراق حتى هذه اللحظة، حتى إن البعض ذهب إلى أن اجتثاث البعث، كان اجتثاثًا للسنة في الأصل، ليس دفاعًا عن البعث كعقيدة أو كحزب، بل قراءة لتلك الذريعة التي استثمرت من قبل الطائفيين والعنصريين وأهل الهوى الفارسي والمصالح في تصفية السنة. لذلك، فإن الأميركان عندما رأوا فداحة الخطأ وحجم الكارثة، حاولوا التملص منها، بالادعاء بأن الخطة كانت اجتثاث 1% من الحزب وهم القادة، لكن التصفية كانت للجميع. أما حل الجيش، فكان مصيبة وخطأ فادحًا. صحيح أن الجيش العراقي بني على الولاء لصدام، لكن كان يمكن استيعابه وتجنب تسريح أفراده السنة الذين اتجه الكثير منهم لجبهات معارضة للدولة الجديدة، كان آخرها “داعش”.

 

نارك ولا جنة هلي

 

بعد دوامة عنف واهتزاز للأمن والثقة، وموجة مهاجرين أخرى، بدأت عملية سياسية خجولة.. مداولات في المنطقة الخضراء وفي عواصم القرار، مستقبلان يلوحان في الأفق، صوملة واستمرار دوامة العنف، أو لبننة وطمر الجمر تحت الرماد. تمَّ الاستقرار على الشكل اللبناني في الحكم، واتجهت العراق إلى دولة محاصصة معطلة فاشلة، قرارها مرتهن لمصالح القوى السياسية. من هنا بدأ التدخل الإيراني السافر في العراق، حيث سيطر على العملية السياسية، وفرض أنصاره، وبث خلاياه السياسية والعسكرية والاستخباراتية، وبدأت الفوضى والإرهاب والتفجيرات وانعدام الأمن وسرقة مقدرات البلد عبر الخونة. ولترسيخ الوجود الإيراني في العراق، حاولت القوى المرتهنة لإيران، تعميق الخلاف بين السعودية والعراق، وتأجيج المشاعر الطائفية عبر تصوير السعودية كعدو للشيعة العرب، وقدمت إيران بمثابة جنة الشيعة (ولكن الفتى العربي فيها .. غريب الوجه واليد واللسان).

 

التشيع علوي

 

في كتابه (التشيع العلوي والتشيع الصفوي)، يطرح عالم الاجتماع الإيراني علي شريعتي، قضية اختطاف المذهب الشيعي من قبل الصفويين وتحويله لمذهب ميتافيزيقي يعتمد على الخرافة ويبتعد عن التشيع الأصلي الذي أسماه التشيع العلوي.

لذلك، فإن شيعة العراق، الذين يشكلون أكبر تجمع شيعي عربي، هم عرب أقحاح، أبناء قبائل عربية تمتد من شمال نجد، حتى جبل سنجار والموصل وحلب، وسلالة عائلات عربية في النجف وكربلاء والبصرة، وهم لا يختلفون عن شيعة الكويت والبحرين والسعودية في قوميتهم وعلاقتهم بالأرض وتعلقهم بالوطن، إنهم غير ما تصورهم الحسابات المتطرفة في وسائل التواصل، ومختلفون عن الصورة النمطية التي صنعتها قنوات الكره والظلام والتطرف.

 

 الموصل .. وسط الخراب تنبت وردة  

 

كان لا يمكن أن يكون للعمل السياسي المرتبك نتيجة إلا الفشل، والفشل لا يأتي على صعيد واحد، لكن المسألة لم تكن فشلاً بقدر ما كانت انهيارًا وهزيمة وفجيعة، صحا فيها العالم في صائفة مشؤومة على سيطرة “داعش” على الموصل ثاني مدن العراق. طبعًا كارثة الموصل أسالت الكثير من الحبر حول خيانة ما، أو دور ما لرئيس وزراء العراق سيئ الذكر، نوري المالكي، مما نتج عنه طرده من رئاسة الوزراء، وصعود السيد حيدر العبادي، لترميم العراق واستعادة الموصل وهيبة الدولة. قبل ذلك بفترة وجيزة، خرج البيان السعودي الشهير الذي دعت فيه العراق لتصحيح المسار والبدء في تفعيل مشاركة سياسية لكافة مكونات الشعب، وعدم الاستئثار بالقرار وجر العراق للخراب؛ حيث استبشر العراقيون بهذا البيان الواضح الصارم الناصح، الذي يبيِّن اهتمام السعودية بشقيقتها العراق ومستقبل أبنائها، فيما ارتعد منه الأعداء واعتبروه تدخلاً في شأن العراق، لكن المملكة لم تلتفت للغربان الناعقة، وبدأت سريعًا في تشكيل حلف دولي لمحاربة “داعش”، الذي بدأ – فعليًا – في تنفيذ ضرباته للإرهابيين في العراق وسوريا.

في صيف 2015 بدأ أول ظهور رسمي سعودي على أرض بغداد بعد قطيعة مرة، إذ تمَّ تعيين سفير سعودي وبدأ العمل الدبلوماسي الفعلي، وعادت العلاقات الرسمية واستبشر الجميع بمستقبل واعد للمنطقة.

نعرف أن عملية إعادة العراق لدوره الطبيعي في المحيط العربي والإقليم، ليست بالعملية السهلة، خاصة مع النظر لحجم الاختراق الإيراني، لكن الدور الأهم يأتي على المخلصين من أهل العراق في الاختيار بين الخراب والدمار والإرهاب الذي تمارسه إيران في المنطقة، وبين التجربة السعودية الزاهية وما تقدمه من وعود بالاستقرار والأمن والانتعاش الاقتصادي.

 

محمد بن سلمان واليد الممدودة

 

أدَّى الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، ولي العهد السعودي، دورًا هامًا وحاسمًا في كسر حاجز الجليد والقفز بالعلاقة السعودية خطوات للأمام، عبر ترسيخ الثقة والبناء على خطوات حقيقية على أرض الواقع، تتمثل في حزمة من الإجراءات التي تخدم البلدين تنمويًا واقتصاديًا، ونتج عن ذلك زيارة تاريخية لرئيس مجلس الوزراء العراقي حيدر العبادي، عقد فيها اجتماع قمة مع الملك سلمان بن عبدالعزيز في عاصمة المملكة العربية السعودية، الرياض، ودشن القائدان خلالها عصرًا جديدًا من العمل العربي المشترك، وفق استراتيجية تنبذ الإرهاب والتطرف والفرقة، وتمضي إلى شراكة تعود بالخير على البلدين.

 

كاتب سعودي*

@turkysaleh

النشرة البريدية

سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!

تابعونا على

تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر