ألمانيا الأمة الاستثنائية | مركز سمت للدراسات

ألمانيا الأمة الاستثنائية

التاريخ والوقت : الثلاثاء, 12 سبتمبر 2017

د. تامر هاشم

 

في العام 1898 وضع السلطان عبد الحميد الثاني خطة إنقاذ إمبراطورتيه(الإمبراطورية العثمانية الشاسعة والممتدة بين البحر الأسود وصولا إلى الخليج الفارسي والبحر الأحمر) من التخلف والذي سيقود لا محالة الى الانهيار، وتتلخص الخطة في ربط الإمبراطورية العثمانية بأوروبا بخط سكة حديد بما يضمن لها التواصل مع أهم المراكز الحضارية في العالم آنذاك.
الدولة الأوروبية التي كانت مؤهلة للتعاطي الإيجابي مع هذا المشروع هي ألمانيا والتي كانت في ذلك الوقت أهم قوة اقتصادية في أوروبا، خاصة أن العلاقات العثمانية الألمانية كانت تتسم بالتعاون الوثيق والذي وصل إلى حد قيام ضباط الجيش الألماني بتدريب وحدات الجيش العثماني منذ العام 1882. وفق هذه الأسس وُلد مشروع سكة حديد بغداد – برلين بتمويل من مصرف دويتشه بنك الألماني. وقد حقق التقارب الألماني العثماني الكثير من الزخم مع زيارة القيصر فيلهلم الثاني لمنطقة الشرق الأوسط عام 1898، ووقوفه عند قبر صلاح الدين في دمشق وثنائه على الملك الأيوبي، لتتشكل أسطورة “الحاج غليوم” والتي مفادها أن القيصر الألماني اعتنق الإسلام وأنه بصدد قيادة جيوشه لطرد المستعمرين الأوروبيين من البلدان الإسلامية. في هذا المجال يرى الدكتور عبد الرؤوف سنو أستاذ التاريخ بالجامعة اللبنانية أن التقارب الذي بدأ في نهاية القرن التاسع عشر يرجع إلى أن “ألمانيا والتي كانت بلا ماضٍ استعماري يذكر في البلدان الإسلامية رأت في التقارب مع الدولة العثمانية سلاحا فعالا في الصراع على المستعمرات مع الدول الاستعمارية الأخرى”. فهذا المشروع الجيو-اقتصادي كان كفيلا بإحداث تحوّل في موازين القوة العالمية لصالح ألمانيا، وهو وضع لم تكن لترضى به بريطانيا وفرنسا وبالأخص الولايات المتحدة، هذا العملاق القابع خلف الأطلنطي آنذاك، لذا كان اندلاع الحرب العالمية الأولى أمرا حتميا.

بعد 37 عاما من انطلاق العمل في المشروع، أي عام 1940، اكتملت عملية مد السكة الحديدية الرابطة بين إسطنبول وبغداد. حينها لم تعد هناك إمبراطورية عثمانية بل تركيا، وبغداد لم تعد جزءا من هذه الإمبراطورية وإنما عاصمة لمملكة العراق. وأوروبا ترزح تحت أثقال حرب ثانية أكثر دموية ودمارا من الأولى.

في العام 1933 وصل هتلر إلى مقعد المستشارية في ألمانيا وهو يحمل مشروعا لإسقاط القوى العظمى التي كانت قائمة في ذلك الوقت، ليس اقتصاديا ولكن من خلال القوة العسكرية. وبالفعل وفي أقل من 7 سنوات وفي ظروف اقتصادية استثنائية حقق النازيون الألمان انتصارات عسكرية لم تحدث من قبل، وكادوا أن يسيطروا على العالم لولا تدخل الولايات المتحدة.

بعد انتهاء الحرب الباردة عادت ألمانيا للصعود للمرة الثالثة، لكن هذه المرة بمشروع اقتصادي صرف يهدف لتوظيف التغيرات الدولية في بناء ألمانيا من الداخل. أول الخطوات كانت في تحقيق الوحدة الألمانية في عام 1990 وهي تعد معجزة بكل المقاييس، فوفقا لحسابات خبراء الاقتصاد كلف توحيد ألمانيا أكثر من 2000 مليار يورو، وهو أكبر استثمار في التاريخ، لقد نجحت المعجزة الاقتصادية الألمانية الثانية في جعل الاقتصاد الألماني في المرتبة الأولى أوروبيا، والرابعة عالميا.
ثم جاء التحدي الثاني الذي كان على ألمانيا أن تواجهه وهو تحدى انخفاض معدل الخصوبة الذي يبلغ 1.38 طفل لكل امرأة الأمر الذي أدى الى تقلص في عدد السكان ببطء، كما أصبح على قاعدة أصغر من العمال الألمان أن تعول عددا متزايدا من المتقاعدين. هذا الوضع وإن كان يعاني منه أغلب الاقتصاديات المتقدمة كاليابان وروسيا والصين والعديد من الدول الأوروبية. إلا أن ألمانيا هي الدولة الوحيدة التي استطاعت أن تستوعب مليون مهاجر هم في سن العمل مرة واحدة، بما يعيد الحيوية للقوة العاملة الألمانية. وقد عبّر عن ذلك بفخر البروفيسور لارس فيلد، الخبير بالسياسة الاقتصادية،حين قال: “إن نظامنا الاقتصادي (القائم على التكافل) الاجتماعي يمكنه استيعاب مليون مهاجر ومصمم لدمجهم في سوق العمل”.

وفى ظل الأزمة الاقتصادية العالمية الراهنة لا يتوقع أن يتوقف مؤشر صعود القوة الاقتصادية الألمانية فآليات وقوانين الاتحاد الأوروبي صممت لتضمن لألمانيا تحقيق النمو الإقتصادي المستدام. ففي ظل الظروف العادية، يعتقد الاقتصاديون أنه إذا كان هناك بلد يدير فائضا تجاريا (مثل ألمانيا)، فإن سعر صرف عملته يرتفع، مما يقلل من تنافسية منتجاته لغلاء أسعارها. لكن ألمانيا في الواقع هي جزء من منطقة اليورو التي تعاني معظمها من حالة ركود اقتصادي بما يؤدي إلى انخفاض في سعر صرف اليورو مقابل سعر صرف عديد من الدول الأخرى مما يجعل الصادرات الألمانية رخيصة. في نفس الوقت فإن العملة الموحدة لا تسمح بانخفاض أسعار صرف البلدان ذات النمو البطيء مثل اليونان أو إسبانيا أو فرنسا في مقابل ألمانيا، مما يعني أن ألمانيا تحصل على دفعة لصادراتها داخل أوروبا.

واليوم وفي مناسبة الانتخابات الألمانية التي ستعقد خلال أسبوعين – بالتحديد24 من الشهر الحالي – يتعين على ألمانيا أن تستعد لمواجهة تحديات جديدة أيضا تفرضها التغيرات الدولية الراهنة.
فهل النخبة الألمانية واعية ومدركة لحجم تلك التحديات؟
الأحزاب الكبرى في ألمانيا متفقة على أن ألمانيا لكي تواجه خطر الإرهاب الدولي فإنها تحتاج مزيدا من عناصر الشرطة. الاتحاد المسيحي وكذلك الحزب الديمقراطي الاجتماعي يريدان تعزيز صفوف الشرطة بـ 15 ألف وظيفة جديدة. وحتى حزبي اليسار والخضر يريدان دعم الشرطة.
كما أنهم متفقين على أن حماية النموذج الاقتصادي الألماني يرتكز على تحقيق التشغيل الكامل (أي معدل بطالة أقل من 3%) حتى عام 2025 – هذا الهدف وضعه حزبا الاتحاد المسيحي في برنامجهما المشترك. وللوصول لهذا الهدف يجب توفير عمل لمليونين ونصف المليون شخص. الاتحاد المسيحي يريد أيضا جعل أوقات العمل مرنة. وكذلك الحزب الديمقراطي الاجتماعي يريد تحقيق التشغيل الكامل، دون ذكر إطار زمني محدد. أما حزب الخضر فيريد تحسين ظروف العمال، عن طريق رفع الحد الأدنى للأجور، وكذلك عن طريق مزيد من المرونة في العمل وإصلاح النظام الضريبي وإصلاح ضريبة المرتبات العليا لعدم هروب الكفاءات.
إلا أن القضية التي لم تأخذ حقها في الانتخابات الألمانية والتي يمكن أن تؤثر سلبا على كل ما حققته ألمانيا هي أزمة الهوية -ليست ألمانيا حالة فريدة فأغلب المجتمعات في أوروبا خاصة والعالم بشكل عام تعاني من أزمة هوية تعطّل آلية الاندماج، في الوقت الذي تضاعف فيه نسبة من يحمل الجنسية الألمانية من أصول أجنبية الى ما يزيد عن 20% والذين ينقسمون الى 3.1 مليون نسمة منحدرين من مناطق الاتحاد السوفياتي، يليهم 2.5 مليون نسمة من أصول تركية، يليهم 780 ألفا من أصول إيطالية، ثم 690 ألفا من أصول بولندية. هذا الوضع مرشح للتفاقم مع انخفاض معدل المواليد لدى الألمان الأصليين ومع استيعاب المانيا لمهاجرين جدد لاستمرار دوران عجلة الاقتصاد.
حتى الآن لا يظهر دور مؤثر لهؤلاء المنحدرين من أصول أجنبية لأن نسبة مشاركتهم في العملية السياسية تصل إلى 20 % أقل من مجموع المشاركة العامة، وهذا ما يؤكده الخبير في العلوم السياسية دنيس شبيس بشكل مختلف حيث يعتبر أن: “السلطة السياسية للمهاجرين محدودة، المجموعة تكبر، لكنها جد منقسمة”.
إلا أن ناقوس الخطر بدأ يدق مع حث الرئيس التركي للألمان من أصول تركية على عدم التصويت للحزب المسيحي الديمقراطي ولا الحزب الاشتراكي الديمقراطي ولا حزب الخضر في سابقة غير معهودة في العلاقات الدولية. هذا الأمر قد أزعج الحكومة بالتأكيد حيث ردت أيدان أوزوغوز ، مفوضة الحكومة الألمانية للهجرة واللاجئين والاندماج بالقول: “لا تتركوا أردوغان يهمشكم داخل المجتمع”.

وحث العديد من السياسيين الألمان من أصل تركي على الذهاب في كل حال إلى صناديق الاقتراع. وقالت مندوبة كتلة الاتحاد المسيحي لشؤون الاندماج شميل غيوسوفك “إن الأمر يتعلق بحياتكم في ألمانيا. والسيد أردوغان لن يقدم أي حل للمشاكل التي يواجهها الناس هنا”.

إن ألمانيا في حاجة جادة لتصميم برامج لتحقيق الاندماج الإيجابي في المجتمع بما يضمن سلامة النسيج الاجتماعي للدولة هذا الأمر يشكل تحدى صعب للدولة الألمانية في ظل التنوع الكبير في الجنسيات والثقافات واللغات والعادات المكونة للتركيبة السكانية القائمة الآن في ألمانيا. فهل تستطيع ألمانيا أن تحقق معجزة جديدة في هذا المجال.

أكاديمي وباحث في العلوم السياسية*

النشرة البريدية

سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!

تابعونا على

تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر