سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
أريج الجهني
لو بدأ الإنسان من المؤكدات لانتهى إلى الشك، ولكنه لو اكتفى بالبدء في الشك لانتهى إلى المؤكدات”.. هذه الاستهلالة لعرّاب المقال الصحفي الكاتب الإنجليزي الشهير “فرانسيس بيكون”. بالتأكيد أن الأسبقية التاريخية في فن المقال تحسب لفرنسا، لكن الإنجليز كعادتهم هم أباطرة التأطير والنظم وصناعة المساقات عبر التاريخ. كتابة المقالات عبر التاريخ لم تكن يومًا ذات معبر آمن، وصناعة الرأي العام تختلف تمامًا عن فن المقال الحر والمقال الذي يبني حضارات كمقالات “إيميل زولا” مثلاً. إن ظهور الصحف يعتبر بشكل ما عاملاً رئيسيًا في توثيق رحلة صناعة المقالات.. هكذا مرَّ المقال عبر مخاضات عديدة بين بطش السلطات عبر التاريخ وبين المآزق اللغوية والأخلاقية كذلك.
بنظرة خاطفة على واقع المقالات العربية عبر السنوات الماضية، سنجد أن المقالات الشعبوية التي تدغدغ مشاعر المتلقي، هي الأكثر حظوة لدى الناس، أيضًا لا يمكن أن نتحدث عن المقالة في السياق العربي دون أن نتطرق للتابوهات الثقافية والاختناقات الفكرية التي حاصرت المثقفين العرب ودفعت بالكثير منهم للهجرة والنبوغ خارج أسوار منازلهم، لعل الحال أفضل حاليًا، لكن يا تُرى هل الرأي الآن كالرأي قبل خمسين عامًا؟ هل هناك عمليات مراجعة أدبية وثقافية لما يطرح عبر الصحف؟ في الحقل الإعلامي، فإن وعي الشارع حينما يتجاوز وعي المشرع فأنت أمام مأزق مهني حقيقي. وسألخص هذه المآزق في ثلاث نقاط تستدعي من رؤساء التحرير، والكتّاب أيضًا، في الصحف العربية والخليجية، التوقف والتفكير بها بشكل جاد.
بعبارة واحدة “من تستكتب؟ ولماذا؟ وماذا سيقدم هذا الكاتب لك؟” من هنا يبدأ المقال الفعلي، من تستكتب؟ هل الجريدة التي تعلن أن لديها أكثر من خمسين كاتبًا ستجذب القارئ؟ هل استكتاب “الشلة والزملاء” ثقافة واردة لدى الصحف العربية؟ من تستكتب؟ هل تستكتب الكاتب الضليع المتمكن من صياغته وأفكاره ممتدة وممشوقة، أم ستكتفي بالمدّاحين الذين يعجزون عن النقد ولا يقدمون للقارئ سوى قيء مصالحهم؟ ما حيثية التعاقد مع الكتاب؟ وما مدى سقف الحرية؟ وهل هناك حائط سيرتطم به رأس الكاتب، أم أن هناك قيودًا تكبل يديه؟ ما زالت فكرة التعري الفكري مثيرة للقلق، خاصة أن التلبس والتنميق بضاعة رائجة وحصادها مضمون، بالتأكيد ستخسر كرامتك معها، لكن ستضمن قوت يومك.
لماذا تستكتب؟ ولماذا تمنح مساحات في الصحف للمقالات؟ بالتأكيد أن البدايات عبر التاريخ كانت ثورية، لكن ما نراه اليوم عبر العالم إذا أردنا التركيز على المقالات الفكرية والسياسية، سنجد أنها أصبحت تصفية حسابات، وأحيانًا مجرد “رتوش”، ناهيك عن “المقالات المائعة” التي لا تعلم ماذا يريد أن يقول صاحبها وتجده غالبًا إمَّا قام بترجمتها دون أن يوضح، أو اختلسها من “قروبات الواتس أب”! وأحيانًا يغضب أحدهم من شريكه ويصب جام غضبه على القراء، آخرون يجعلون المقالات رسائل غرامية وشفرات! هناك اختراق أخلاقي مؤسف في الكثير من المحتوى الصحفي وغير مقبول.
المأزق الأخطر، ماذا سيقدم هذا الكاتب؟ ماذا سيضيف للمتلقي؟ “بالتأكيد نحن لا نتحدث عن المعلومات هنا”، هل المناخ الفكري يحتمل التوسع والتمدد في الاختلاف؟ هل القارئ يجد ضالته لدى هذا الكاتب؟ ماذا ستقدم الصحيفة للكاتب؟ في أزمة الصحف الورقية حول العالم تمَّ الاستغناء عن عدد كبير من الكتّاب، جريدة الرأي الأردنية مثلاً قلّصت عدد الكتّاب لديها في عام ٢٠١٣ من ٥٣ كاتبًا إلى ثمانية فقط! وبحسب ما ورد في الخبر أن هذا الأمر سيوفر مبلغًا سنويًا يصل إلى نصف مليون دينار! اللافت أن هذا الاستغناء لم يكن فقط للكتّاب العامة، بل حتى ثلاثة وزراء سابقين ورجال سياسة وإعلام، يا تُرى ماذا لو قرر رؤساء التحرير في الصحف المحلية قرارًا مشابهًا؟
المجاملات في هذا الوقت تشبه قرار الانتحار، عندما تجامل كاتب عمود يومي يكرر فكرة واحدة في خمس سنوات، فأنت تحجب هذه المساحة عن كاتب عبقري فقط لتحافظ على كاتب عبء على جريدتك، عندما تهتم بالعمر الزمني للكاتب وجمهوره وتتجاهل العقول الشابة المسلحة بالعمق المعرفي والنضج الفكري، فأنت تمنع شريحة كبيرة جدًا من الإيمان بصحيفتك، الجمهور الآن غالبه من الشباب، لهذا هم غير مهتمين بالصحافة؛ لأنهم لا يرون من يشبههم إلا في حالات محدودة.
خارطة طريق؟ نعم، نحن بحاجة لخارطة طريق وإعادة هيكلة لكتّاب الرأي، والأهم أن تكون هناك معايير عالية في اختيار الكتّاب، وأيضًا فيما يطرحون. هناك فجوة بين كاتب يحمل أجندة ورقية يدون بها عناوينه لعام قادم، وبين من يجعل ردات الفعل والإثارة مصدر فكرته، الذي يعتقد أن الناس لا يقرؤون بالتأكيد لن يدرك خطورة ما سبق. هكذا أعود لفكرة “بيكون” أن الشك هو ما نحتاجه الآن، علينا أن نتجرد من المؤكدات وأن لا نؤمن بالبقاء إلا للأفضل والأفضل فقط.
كاتبة سعودية*
areejaljahani@
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر