مشاكل أردوغان | مركز سمت للدراسات

أردوغان يقود تركيا من “صفر مشاكل” إلى “صفر أصدقاء”

التاريخ والوقت : الأحد, 1 نوفمبر 2020

ديفيد رومانو

 

هبطت الليرة التركية إلى أعماق جديدة الأسبوع الماضي، مخترقة حاجز الـ8 أمام الدولار الأميركي، جاء ذلك بعد أن تحدى الرئيس “رجب طيب أردوغان”، الولايات المتحدة بفرض مزيد من العقوبات على بلاده وتصعيد الخطاب ضد القادة الأوروبيين. وقبل نحو 10 سنوات، كانت علاقات تركيا الخارجية ودورها في البحر المتوسط ​​والشرق الأوسط تبدو مختلفة تمامًا عن حالة الفوضى التي نعيشها اليوم. ومع نمو الاقتصاد بمعدل مثير للإعجاب، بدأت تركيا الواثقة بشكل متزايد بحكومة شعبية ومستقرة في الداخل تلعب دورًا قياديًا في المنطقة.

وفي ذلك الوقت، كان وزير الخارجية، “أحمد داود أوغلو”، يروّج لسياسته الخارجية التي حملت شعار “صفر مشاكل مع الجيران”، والتي أعلن عنها لأول مرة في عام 2008. وقد شهدت هذه السياسة تحسين تركيا لعلاقاتها مع كل دولة مجاورة، حيث أصبحت أنقرة الوسيط المفضل في النزاعات من أفغانستان وباكستان إلى الداخل. وكذا الخلافات الفلسطينية والمحادثات الإسرائيلية مع سوريا وحتى التوترات الأميركية الإيرانية.

وكان السياسيون في أوروبا وأميركا الشمالية يتغنون بشكل منتظم بمديح الرئيس “أردوغان”، بل إن الرئيس الأميركي “أوباما” قدَّم تركيا على أنها “نموذج” للديمقراطية الإسلامية وحليفها. وفي الوقت نفسه، سعت الشركات التركية إلى التوسع في مشاريع دائمة في جميع أنحاء العالم العربي بشكل مرحب به، وفي آسيا وإفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. وقد تمَّ إلغاء متطلبات التأشيرة مع سوريا، مع الحديث عن فتح مماثل لدول عربية أخرى. وحتى العلاقات بين أنقرة وحكومة إقليم كردستان العراق ازدهرت خلال هذه الفترة، ومع زيارات دولة متبادلة شهدت رفع علم إقليم كردستان إلى جانب العلم التركي. وفي الداخل، واصلت أنقرة أيضًا محادثات سلام مع ممثلين سياسيين من السكان الأكراد في تركيا.

أمَّا اليوم، فلا يمكن أن يبدو الوضع أكثر اختلافًا. ففي غضون 10 سنوات فقط، انتقلت تركيا من “صفر مشاكل مع الجيران” إلى “صفر أصدقاء” تقريبًا. فالتدريبات البحرية في البحر الأبيض المتوسط تجري وسط ​​مواجهات متوترة بين السفن الفرنسية واليونانية والقبرصية وحتى الإسرائيلية والمصرية مع السفن التركية. وقد تمَّ استبدال محادثات السلام مع الأكراد باستئناف الأعمال العدائية وأصبحت علاقات أنقرة مع الأكراد العراقيين أكثر فتورًا.

وبدأت عدة دول عربية مقاطعة البضائع التركية، بينما تضغط فرنسا وبعض الدول الأوروبية الأخرى لفرض عقوبات من جانب الاتحاد الأوروبي على أنقرة. وبالمثل، يحث الكونجرس ومجلس الشيوخ الأميركيان على فرض عقوبات على تركيا، بينما تناقش العديد من مراكز الفكر في واشنطن مدى جدوى بقاء تركيا جزءًا من الناتو. ففي هذا العام، أضاف القادة الإسرائيليون، لأول مرة، تركيا إلى تقييماتهم السنوية للتهديدات، حتى أصبحت العلاقات بينهم سيئة جدًا.

حتى إن بعض الأصوات في موسكو باتت تتكهن حاليًا وبشكلٍ علنيٍّ إن كان الرئيس “أردوغان” يحمل “طموحات عثمانية” أم لا. فلا يكاد يمر أسبوع دون بعض المشادات الكلامية بين “أردوغان” والقادة في أوروبا أو الولايات المتحدة أو العالم العربي. وخلال الأسبوعين الماضيين فقط، شكَّلت خلافات تركيا مع الآخرين والأنشطة المزعزعة للاستقرار قائمة مثيرة.

ووفقًا للعديد من الروايات، زادت تركيا، مؤخرًا، من صادراتها من الأسلحة إلى أذربيجان، ثم حثت “باكو” على استئناف حربها مع أرمينيا، وهو ما تسبب في إثارة القلق خاصة لدى موسكو (الداعم الرئيس لأرمينيا). وقد لعبت أنقرة دورًا مفسدًا في ليبيا أيضًا، مما أدى إلى إفشال اتفاق وقف إطلاق النار بين الحكومات المتنافسة هناك. وفي البحر الأبيض المتوسط​​، واصلت تركيا تجاهل المزاعم البحرية لليونان وقبرص للتنقيب عن الغاز في مساحة ضخمة من المياه الساحلية التي تطالب بها لنفسها.

وفي العراق، واصلت تركيا قصف مناطق ريفية مختلفة بالقرب من الحدود حيث ينشط المقاتلون الأكراد، وزادت في الوقت نفسه من عدد القواعد العسكرية والجنود في البلاد، وذلك بخلاف رغبات بغداد.

وفي سوريا، تواصل تركيا احتلال مساحات شاسعة من الشمال، حيث هجَّرَت مئات الآلاف من المدنيين الأكراد عندما غزت عفرين في 2018.

وفي هذه المناطق وبمحافظة إدلب ذات الغالبية العربية، تواصل أنقرة أيضًا دعم ونشر قوات إسلامية بالوكالة، حيث إن بعضها من مقاتلي “داعش” السابقين والمتطرفين تمامًا.

حتى إن تركيا أرسلت وكلاءها المرتزقة السوريين إلى ليبيا وأذربيجان أيضًا للمساعدة في دفع مصالحها في تلك النزاعات. وهكذا يستمر الدعم التركي للجماعات المتحالفة مع جماعة الإخوان المسلمين في جميع أنحاء الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بلا هوادة، مما يؤدي بشكل فعال إلى تدمير علاقات أنقرة مع مصر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ودول أخرى في المنطقة تعارض الإسلام السياسي.

لقد اشتعل استخدام تركيا للدين كأداة سياسية لحشد الدعم في جميع أنحاء العالم مرة أخرى في علاقاتها مع فرنسا. فبعد أن أعلن الرئيس “إيمانويل ماكرون” عن إجراءات في فرنسا لمنع إساءة الاستخدام السياسي للإسلام هناك (وذلك بعد قطع رأس مدرس فرنسي بالقرب من باريس من قِبَل مسلم فرنسي- شيشاني متطرف)، انتقد الرئيس التركي “أردوغان” الإجراءات الفرنسية واتهم “ماكرون” بالحاجة إلى “العلاج النفسي”.

وفي الأوقات العادية، كان التحركات الفرنسية لمراقبة مصادر الدخل الأجنبي للجماعات الإسلامية في فرنسا وتدريب الأئمة هناك لا ينبغي أن يثير الكثير من التعليقات في الخارج. ومع ذلك، تحرك “أردوغان” على الفور لإثارة خلاف آخر حول هذه القضية، وبالطبع فإنه يهدف من وراء ذلك إلى تصوير نفسه على أنه “مدافع عن الإسلام” مثل خلفاء الإمبراطورية العثمانية البائدة.

وقد انضمت قطر وإيران إلى تركيا في إدانة فرنسا. حتى إن وسائل الإعلام التي تسيطر عليها الحكومة في تركيا نشرت قصصًا حول كيفية قيام الجهاد الإسلامي الفلسطيني (وهي جماعة صغيرة تعمل بالوكالة عن إيران عادةً ما تكون غير مهمة في جميع قوائم الجماعات الإرهابية الغربية) “بالإشادة بتركيا لدفاعها عن الإسلام والمسلمين”.

وبالعودة إلى أكثر من أسبوعين، يمكن للمرء أن يستشهد بقائمة طويلة من الخلافات التركية من السنوات العشر الماضية مع كل شخص تقريبًا باستثناء إيران وقطر وأذربيجان وعدد قليل من الجهات الفاعلة غير الحكومية.

ويمكن أن تشمل القائمة، على سبيل المثال لا الحصر، تهديدات “أردوغان” بتوجيه “صفعة عثمانية” للأميركيين، والجهود التركية لمساعدة إيران على التهرب من العقوبات، ووصف قادة اليوم في أوروبا بـ”النازيين”، مدعيًا أن العديد من الجزر في بحر إيجة يجب أن تكون تحت سيطرة تركيا. وبدلاً من السيادة اليونانية، والتهديد باستخدام اللاجئين كسلاح لإغراق أوروبا، والعديد من تصريحات صافرة الكلاب المعادية للسامية حول “لوبي أسعار الفائدة”، يسعى إلى تدمير تركيا وغيرها من المواجهات الأخرى.

إذن: كيف انتقلت تركيا من “صفر مشاكل مع جيرانها” إلى هذا الحال؟ ومن ناحية أخرى، ينبغي توقع بعض التوترات المتزايدة مع نمو قوة الدولة واستعراض عضلاتها.

فالصين، على سبيل المثال، لديها نزاعات خطرة متزايدة حول الحدود البحرية وقضايا المياه الساحلية الحصرية. ولا تشارك الصين في نصف عدد النزاعات المسلحة أو الخلافات الدبلوماسية الصاخبة التي دخلت فيها تركيا في السنوات القليلة الماضية فقط، ومع ذلك، فقد كان النمو الاقتصادي التركي الذي يتفاخرون به يتوازى مع سياسة “صفر مشاكل”.

وفي الواقع، فإن المشاكل الاقتصادية والنزاعات السياسية والعسكرية تسير جنبًا إلى جنب. فقد اجتمعت عدة عوامل في السنوات العشر الماضية لإعادة تركيا إلى ما هي عليه الآن. ففي المقام الأول، دفعت حكومة “أردوغان” الجيش التركي إلى الثكنات، مما سمح له بتغيير توجه السياسة الخارجية للبلاد ونهجها تجاه الإسلام كما يراه مناسبًا. ذلك أنه عندما اندلعت انتفاضات ما يُسمَّى بالربيع العربي في عام 2011، اعتبرها “أردوغان” فرصة لدعم الجماعات المتحالفة مع جماعة الإخوان المسلمين في جميع أنحاء المنطقة العربية.

وعندما بدأ الاقتصاد التركي في التباطؤ وتصاعدت معارضة حكومته في الداخل، ضاعف “أردوغان” من دعمه للإسلاميين في الخارج، حيث نصَّب نفسه باعتباره “مدافعًا عن الإسلام” لصرف انتباه الناس عن اقتصاده المتدهور واستبداده المتزايد. إن كل الحرب الكلامية الدائرة مع الأوروبيين والأميركيين والأرمن والإسرائيليين وغيرهم من غير المسلمين تساعد “أردوغان” على القيام بذلك. وبالمثل، فقد ساعدت الحرب مع الأكراد، التي اختار استئنافها بعد الأداء الانتخابي الضعيف بشكل خاص في عام 2015، على صرف انتباه خصومه السياسيين المحليين.

مشكلة تركيا أن تزايد التشابكات في الخارج والمواجهات مع الآخرين سيؤدي إلى تفاقم مشاكلها الاقتصادية. ففي فترة زمنية قصيرة، قد تجد تركيا نفسها مفرطة في التمدد ومعزولة. وفي مرحلة ما بعد ذلك، سوف يلوم الجمهور التركي “أردوغان” على ما حدث، أو قد ترى تركيا نفسها وقد أصبحت دولة منبوذة وأضعف بكثير، أو حتى كلا الأمرين.

 

إعداد: وحدة الترجمات بمركز سمت للدراسات

المصدر: أخبار العرب

النشرة البريدية

سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!

تابعونا على

تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر