أردوغان والسعي الأخير لـ”البردة الخضراء” | مركز سمت للدراسات

أردوغان والسعي الأخير لـ”البردة الخضراء”

التاريخ والوقت : الخميس, 23 مايو 2019

سعود السرحان

 

في أعقابِ هجوم نيوزيلندا الإرهابي، الذي أودى بحياة 50 مسلماً نيوزيلنديّاً، خرج الرئيس التركي رجب أردوغان رابطاً الهجومَ بحملة «أنزاك»، التي شنَّها أستراليون ونيوزيلنديون تحتَ رايةِ العلم البريطاني، ضدَّ الإمبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الأولى. ومن خلال ذلك الربط، فإنَّ أردوغان يُرجِعُ سببَ الهجوم الإرهابي إلى «استمرار رُهاب الغرب من الإسلام (الإسلاموفوبيا)».

وقد استخدم أردوغان مشاهدَ من هجوم نيوزيلندا مستثيراً المشاعرَ الإسلاميةَ لتعزيز فُرَص حزبِه خلالَ الانتخابات البلدية التركية. وبعبارةٍ أخرى، فإن أردوغانَ ـ سعياً منه لإضفاء الشرعية على حكمه ـ قد صبغ خطابَه بمفردات الأممية الإسلامية، ووظَّف الدينَ الإسلاميَّ توظيفاً كبيراً، في محاولةٍ لاستمالة المجتمعِ المسلم حولَ العالم حتى يقبل المواقف السياسية التركية؛ وإن كان من شيءٍ يجمعُه بغيره من السياسيين في الكثير من الدُّول ذات الأغلبية المسلمة، ويربطُه بالأجنحة السياسية لمختلف الجماعات الإرهابية، فهو استخدام هذا الأسلوب المُبتذَل.

وليس بالأمرِ الجديد مثلُ هذا الاستغلالِ للمشاعر الإسلامية العالمية من جانب الدولة التركية، ولكنَّه يكشفُ عن محاولةٍ لإحياء مشروع سياسيٍّ تركي عثماني قديم، كانت صفحاتُه قد طُوِيَت مع تأسيس الجمهورية التركية الحديثة ـ ذلك المشروعُ الذي يرنو إلى تحقيق حركةٍ أممية إسلامية عالمية، دينية قومية، تقودها تركيا، ومن شأنها أن تختزلَ توصيفَ «المسلمين»، وتحصرَهم في إطارٍ عدائيٍّ مناهض «للغرب».

وقد ألِفَت الآذانُ سماعَ الإسلاميين يتحدثون بحنينٍ عن الإمبراطورية العثمانية، ودورِها العالميِّ الملموس في الذَّوْدِ عن «حِمَى الإسلام» ضدَّ أهل «الكفر». وقد مثَّل إلغاءُ الخلافة لكثيرٍ من الإسلاميين نقطةً مُظلمة في التاريخ الإسلامي. نَعَمْ، كان السلاطين العثمانيون يُلَقَّبُون بلقب «الخليفة»، لكن كانوا يحملون أيضاً مجموعةً من الألقاب الأخرى تعكسُ تاريخَهم الإمبراطوريَّ من الفتوحات، وتُبرِزُ ما يدَّعونه من إرث الإمبراطوريَّتَيْنِ المغوليةِ والرومانيةِ؛ مثلُ پاديشاه (الإمبراطور)، وخاقان (خان الخانات)، بل كانوا يُسَمَّوْن قيصر الروم.

وبخلافِ الحُكّام السابقين الذين حملوا لقبَ «الخليفة» ـ كالأمويين، والعباسيين، والفاطميين ـ لم يكُن العثمانيون من آل بيتِ النبيِّ ﷺ.
ولم يتبوَّأ الحكامُ العثمانيون منصبَ الخلافة وارثين إيّاهُ عن أسلافهم، بل بانتزاعِ أراضي آخر الخلفاء العباسيين، الذي كان تحت إمرة مماليك القاهرة، عامَ 1518. ومع ذلك، فإن لقبَ «الخليفة» لم يكُن السلاطين العثمانيون يُلَقَّبون به في العادة، ولكنَّ الأمرَ تغيَّرَ بعد أن تعاقبت هزائمهم على يد الإمبراطوريات الاستعمارية الأوروبية، في فترةٍ لاحقة من التاريخ العثماني، ومنذ ذلك الحين زاد استعمالهم لهذا اللقب بانتظامٍ. وصار هذا ديدنَهم؛ كلما كبَح الأوروبيون جِماحَ غزوِ العثمانيين للبلاد لجؤُوا إلى استغلال مشاعر الإثارة في نفوس المسلمين، وتوظيف السلطانِ العثماني لقب«الخليفة»، الذي كان قد نسي.

ويرجعُ ظهورُ «الأممية الإسلامية» لعدة عواملَ؛ فقد أدَّى تراجعُ العثمانيين إلى تحوُّلِ الإمبراطوريةِ إلى كيانٍ اشْتُهِرَ بين القوى الأوروبية بـ «رجل أوروبا المريض»، وقادت الخسائرُ الإقليميةُ التي تكبَّدها العثمانيون إلى تقليل عدد السكان المسيحيين العثمانيين؛ إذ حصلت عدةُ شعوبٍ في أوروبا العثمانيةِ على استقلالها عن الأتراك؛ كاليونان في عام 1829، ورومانيا وصربيا في عام 1878، وبلغاريا في عام 1908. وقبلَ حروبِ الاستقلال في البلقان، كان المسيحيون يُمثِّلون أكثرَ من ثُلُث سكان الإمبراطورية العثمانية، وبحلول نهاية القرن العشرين، أصبحَ المسيحيون العثمانيون يُمثِّلُون أقلَّ من خمس سكان الإمبراطورية.

وقد أسهمَ طغيانُ ملامح الشخصية المسلمة على السكان العثمانيين في حَصْر المستشرقين الأوروبيين، والداروينيين الاجتماعيين، وعلماء العرق، وعلماء الوراثة، للمسلمين في نمطٍ عرقي مُحدد؛ فقد أصبح المسلمون ـ في العلوم «الحديثة»، ووفقاً لوجهة النظر العالمية في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين ـ مجموعةً منفصلةً شبهَ عرقية، يُنظر إليها على أنها أدنى منزلةً من الأوروبيين المسيحيين البيض. وقد قَبِل كثيرٌ من المفكرين المسلمين هذا التوصيفَ العرقي، لكنهم رفضوا أن يُوصموا بالدونيّةِ. وفي مواجهةِ المستشرقين الأوروبيين، حاولَ هؤلاء المفكرون المسلمون ـ الذين يُشار إليهم في الغالب على أنهم مُجدِّدُون إسلاميون ـ أن يدحضوا تهمةَ الدونيةِ؛ وذلك بتقديمِ الإسلام على أنه دينٌ عالمي، والترويجِ لفكرة الحضارة الإسلامية، وجعلِ الإسلام في حالة صراعٍ مع «الغرب المسيحيِّ».

وقد أدَّت كلُّ التطوراتِ المذكورةِ أعلاهُ إلى ظهور وعيٍ بالأممية الإسلامية لدى النخبةِ الحاكمة العثمانية، الذين سعَوْا إلى تبوُّؤ دورِ الريادةِ في حركة الأممية الإسلامية؛ للنهوض بحالة إمبراطوريتِهم المتدهورةِ. وكانوا يهدفون إلى استخدام الإسلام لاستعادةِ مكانتِهم عند القُوى الإمبريالية العالمية في تلك الفترة، وهو هدفٌ غيرُ روحيٍّ بالتأكيد. وكان من شأن التطورِ التكنولوجيِّ ـ مثل انتشارِ القطارات، والصحفِ، والاتصالاتِ البرقيّةِ، والبواخرِ ـ أن مَكَّن المسلمين من التواصل عبرَ العالم؛ مما منح العثمانيين الفرصةَ ليُحاولوا احتلالَ مكانةٍ مركزية بين مسلمي العالم، على الرغم من حقيقةِ أنَّهُم كانوا يحكمون أقلَّ من 10 في المئة من العالم الإسلامي وقتَها.

قُبَيلَ اندلاع الحرب العالمية الأولى بفترةٍ وجيزةٍ، بدأت الحكومةُ العثمانية بشكلٍ أكثرَ فاعليةً في استخدام خطابِ الأممية الإسلامية؛ لحث المسلمين خارجَ الإمبراطورية العثمانية على أن يَدينوا بالولاء، لا لحُكّامهمُ المحليين بل للإمبراطورية العثمانية، التي اختارت الاصطفافَ إلى جانب الألمان خلالَ الحرب، وأعلنت الحربَ المقدسةَ (الجهادَ) على الحُلَفاء. ومن جانبها سعَت ألمانيا إلى استخدام الأمميةِ الإسلامية العثمانية لتقويض قُوّة الحلفاء (وخاصّةً البريطانيين)، الذين كانوا يحكمون غالبيةَ العالم الإسلامي في إفريقيا وجنوب شرق آسيا.

ومع ذلك، فقد باءت تلك المساعي بالفشل؛ إذ لم يُدركْ كلٌّ من الألمان والأتراك العثمانيين قلّةَ تعاطفِ العربِ وغيرِهم من مسلمي الإمبراطورية العثمانية تجاهَ الدولة؛ وذلك بسبب سياسات «التَّتْريك» المتزايدة التي اتبعتها الحكومةُ العثمانيةُ أوائلَ القرن العشرين؛ فقد وردَ في تقريرٍ سريٍّ للمخابرات البريطانية قبل نهاية الحرب العالمية الأولى:
ازداد عداءُ العرب للأتراكِ، إلى درجةٍ تجعل تَقَبُّلَ الأولِ لحُكم الأخيرِ ليس محلَّ تفكيرٍ، وبما يُقلِّص فرصةَ الاتحادِ تحت راية الأممية الإسلامية ضدَّ أوروبا، فيما يبدو، إلى الصفر. وفي الواقع، بغض النظر عن نتيجة الحرب، فليس من السهل أن نعرفَ مدى إمكانية تغيُّر هذه النتيجة المحددة.

بعد الحرب العالمية الأولى (1918) وإلغاء الخلافة (1924)، أُعيدَ إحياءُ فكرةِ الأمميّة الإسلاميةِ على يدِ جماعاتٍ مثل جماعةِ الإخوان المسلمين في مصرَ، وحركةِ الخلافة في الهند، ومؤتمر العالم الإسلاميِّ في فلسطين، والتي تَرْجعُ أفكارُها بقدرٍ كبيرٍ إلى شخصياتٍ مثل أبي الأعلى المودودي في الهند البريطانية، ورشيد رضا في مصرَ، والحاج أمين الحسيني في فلسطين التي كانت تحتَ الانتداب. وبالاعتماد على التمويل والهيئاتِ العابرةِ للحدود الناشطة في الهند البريطانية، استطاع الحسينيُّ تنظيمَ مؤتمرِ العالم الإسلامي في القدس، بهدفِ توحيدِ المسلمين في جميعِ أنحاءِ العالمِ ضدَّ الصهيونيةِ. وخلالَ ثورةِ فلسطينَ عام 1936، جمعَتْ جماعةُ الإخوان المسلمين في مصرَ تبرعاتٍ خيريةً للمؤتمر، راسمةً بذلك مساراً عابراً للحدودِ لَزِمَته الجماعةُ منذُ ذلك الحينِ.
وخلالَ الحرب العالمية الثانية، تعاون كثيرٌ ممن يتبنَّوْن فكرةَ الأممية الإسلامية مع ألمانيا النازية على أمل نُهوضِ «العالم الإسلامي» الذي في مُخَيلاتهم، والإطاحةِ بحُكّامهم الاستعماريين؛ وقد كان الحلفاءُ (بريطانيا، وفرنسا، وروسيا، والصين، وهولندا) في منتصف القرن العشرين ما زالوا يحكمون معظمَ العالم الإسلاميِّ. وعلى الرغمِ من أن المحاولةَ فشلَت مرّةً أخرى في تحقيق أهدافِها، فقد استَقَتْ جماعاتُ الأممية الإسلامية معتقداتٍ من المُنَظِّرين النازيين وغيرهم من الفاشيين، مثل معاداتَهم الشديدةَ للساميةِ.

بعدَ الحربِ العالمية الثانية، زادت أحزابُ الأمميةِ الإسلامية من مشاركتِها السياسيةِ، وساعدت شخصياتٌ مثل سيد قطب في مصر على ظهور فصيل مُتشدِّدٍ داخلَ الإسلاميين. وقد مكَّنَت هذه العمليةُ، خلالَ فترة الخمسينيات التي سبقَت الثورةَ الإيرانيةَ، أحزابَ الأمميةِ الإسلاميةِ من الوصول إلى السلطة في أماكنَ مثل إيران (الخمينية)، والعراق (حزب الدعوة)، وغزّةَ (حماس)، ومصرَ (حزب جماعة الإخوان المسلمين: الحرية والعدالة). وقد مكَّنَت الأمميّةُ الإسلاميةُ لنفسها في الثمانينيات والتسعينيات، بعدَ فشل الأنظمةِ القومية العربية العلمانية في التوصُّلِ إلى حلٍّ للقضيةِ الفلسطينيةِ، وبعدَ انهيار الاتحاد السوفييتي تاركاً القليلَ من الدعم للحكوماتِ العلمانيةِ المنحازة للسوفييت في مختلف أنحاءِ العالم العربيِّ. وفي القرنِ الحادي والعشرين، يمكنُ أيضاً الحكمُ بأنَّ تزايدَ الارتباطِ بالجماعاتِ شديدةِ التطرُّفِ التي تدعو إلى «الجهاد» العالمي ضدَّ غيرِ المسلمين، وكذلك ضدَّ المسلمين والأنظمة الإسلاميةِ التي رفضت الإسلامَ السياسيَّ ـ خرجَ من رحِم فكرة الأممية الإسلامية.

عندما وصلَت جماعةُ أردوغانَ التركيةُ الإسلاميةُ (حزبُ العدالة والتنمية) إلى السلطة عامَ 2003، سعى إلى تحريرِ مؤسساتِ الجمهوريّةِ التركيّةِ وفقاً لمعاييرَ تسمحُ بانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبيِّ. وقد وضعه هذا في صراعٍ داخليٍّ مع المؤسسات «الكَماليّةِ» في البلاد، لا سيَّما الجيشُ والنظامُ القضائيُّ. ومع ذلك، فإن فشلَ حزبِ العدالةِ والتنمية في تأهيل تركيا لعضوية الاتحاد الأوروبي قد أحدث بالتبعية تحولاً محوريّاً في سياسةِ أردوغانَ الخارجيةِ، قادَهُ ليتبنَّى من جديدٍ رؤيةً تصطَبغُ بفكرة الأمميّةِ الإسلاميّةِ.

ومن ثمَّ، بدأ أردوغانُ يدعمُ صراحةً جماعةَ الإخوان المسلمين في مصرَ، ونصَّبَ نفسَهُ زعيماً معارضاً لنظامٍ إقليميٍّ جديد في العالم العربي، صاغَته المملكةُ العربية السعودية ومصرُ والإماراتُ العربية المتحدة، الذين اتبعُوا سياساتٍ تهدفُ في النهاية إلى اجتثاثِ جُذور دعاةِ الإسلام السياسيِّ من المنطقةِ إلى غير رَجعةٍ. وقد جعل أردوغانُ تركيا نفسَها ملاذاً آمناً للإسلاميين، يَبُثُّون من على أرضها الدعايةَ والتنظيرَ للإسلام السياسيِّ، عبرَ القنواتِ الفضائيّة والمحطاتِ الإذاعيّة.

وعلى منوالِ عبدِ الحميد الثاني ـ الذي كان يعتمدُ على مُنظماتٍ دينيّة، وكذلك على التكنولوجيا الحديثةِ؛ مثل السككِ الحديدية، والصُّحُف؛ لكسبِ ولاء المسلمين خارجَ الدولة لدولتِه القائمةِ على أساس الأممية الإسلامية ـ نسجَ أردوغانُ الذي اعتمدَ على شبكةٍ من المتعاطفين مع الإخوان المسلمين في جميع البلدان الإسلامية، والذين يحْظَوْن بدعمٍ تركيٍّ كاملٍ؛ لإحياءِ الدور التركي داخليّاً وخارجيّاً، تحتَ ستار «التضامن الإسلاميِّ».

وكما فعلَ الشيخُ أبو الهُدى الصيّادي، الذي حاولَ إضفاءَ الشرعيةِ على السلطان عبد الحميد الثاني بين الجماهيرِ العربية، روَّجَ المتعاطفون مع الإخوانِ المسلمين ـ مثل الشيخ يوسف القرضاوي ـ لأردوغانَ بين الجماهير العربيةِ، من خلال الادِّعاءِ بأنه اختيارٌ إلهيٌّ؛ شأنه شأن الخلفاء( ). ومن جانبه بدأ أردوغان يُرَوِّجُ لفكرة أن تركيا «بثروتِها الثقافية، وتاريخِها الثَّرِيِّ، وموقعها الجغرافي … هي الدولةُ الوحيدةُ القادرة على قيادة العالم الإسلامي»( ). وكما رأى الحاج أمين الحسيني من قبلُ، اعتقد أردوغانُ أن حلَّ النزاع الإسرائيلي الفلسطيني يكمن في الوحدة الإسلامية( )، مع جرعةٍ صحيّةٍ من المعاداة الفاشية للسامية.

وتماماً كما استخدمَت الحكومةُ العثمانية أوائلَ القرن العشرين الأمميةَ الإسلامية أداةً لدعم الاقتصاد العثماني، علَت نداءاتُ أردوغان بالأممية الإسلامية لتشجيع المسلمين خارجَ تركيا على الاستثمارِ في البلاد؛ دعماً للِّيرةِ التركيةِ، التي شهدَتْ تراجُعاً في السنوات الأخيرة؛ بسبب نظريات الاقتصادِ المثيرةِ للجدل التي أقرَّها أردوغانُ، وسوءِ إدارة حزبِ العدالة والتنمية للاقتصاد التركيِّ. وعلى سبيل المثال، حثَّت مجموعةٌ من المتعاطفين مع جماعةِ الإخوان المسلمين في الخليج الإسلاميين على الاستثمارِ في تركيا؛ إنقاذاً للعملةِ التركيّة من مزيدٍ من التدهور. وبيَّن النائبُ البرلمانيُّ الكويتي السابق فيصل المسلم الصعوباتِ الاقتصاديةَ التي تُواجهها تركيا نتيجةً «للحرب الاقتصادية ضدَّها»، وطلب من المسلمين دعمَ تركيا لأنها بلدٌ إسلاميٌّ؛ حتى إن الإسلاميَّ الكويتي حامد العلي ادَّعى أن دعمَ الاقتصاد التركي واجبٌ دينيٌّ على المسلمين. بالإضافة إلى ذلك، صرَّح الصحفيُّ السابق في قناة الجزيرة، والمعروف بتعاطفِه مع جماعةِ الإخوان المسلمين، صابر مشهور، بأنَّ «تركيا هي القلعةُ الأخيرةُ للمسلمين، وهي التي تُدافع عنّا، [لهذا السبب فإن] تركيا بلدُنا، ندافعُ فيها عن إسلامنا …؛ ولذلك يجِبُ علينا جميعاً دعمُ تركيا والليرةِ التركية».

ومن ثمَّ، حاول الإسلاميون استخدام خطاب الأممية الإسلامية لإنقاذ الاقتصاد التركي من الركود. وهذه قصةٌ تُسرَدُ فصولُها في أجزاء أخرى من «العالمِ الإسلاميِّ»؛ ففي باكستانَ، نظَّمت الجماعاتُ الإسلامية؛ مثل جماعتي إسلامي (الجماعة الإسلامية)، حملاتٍ لدعم شراء الليرةِ التركية؛ وفي ماليزيا، أدَّت الدعواتُ لدعمِ الليرة التركية إلى تجاوبٍ قويٍّ عبرَ وسائلِ التواصُل الاجتماعيِّ. ويُذَكِّرُنا هذا مرّةً أخرى بدعمِ الأمميّة الإسلامية، الذي طلبه الأتراكُ في العقودِ الأولى من القرن العشرين؛ وكان من صُورِ هذا الدعمِ اعتمادُ السلطان عبد الحميد الثاني على المسلمين لتمويل سكّةِ حديدِ الحجاز، أو التبرعاتُ الضخمةُ التي جُمعت لهم خلالَ حروب البلقان (1912-1913). ويعزو أردوغانُ ودعاةُ الأمميةِ الإسلامية التراجُعَ السريعَ في الاقتصاد التركي إلى مؤامرةٍ غربيةٍ؛ لا تختلف كثيراً عن مؤامرات أعضاء جمعية «تركيا الفتاة» القوميين المناهضين للغرب، الذين تسبَّبُوا في انهيارِ الإمبراطورية العثمانيةِ بتحالفِهم مع ألمانيا الإمبراطوريةِ ضدَّ الحلفاءِ الغربيين.

وخلافاً لكمالِ أتاتورك، مُؤسِّسِ الجمهوريةِ التركية العلمانية، المبنيةِ على أنقاضِ الإمبراطوريةِ العثمانية في الأناضول، والذي حاولَ فصلَ تركيا عن ماضيها العثمانيِّ ـ يعتقدُ أردوغانُ أن الجمهوريةَ التركيةَ الحديثة ليست سوى «امتدادٍ للعثمانيين».

إن توجُّهَ أردوغانَ نحوَ الأمميةِ الإسلامية لا يختلفُ عن تحول الإمبراطوريةِ العثمانية في رَمقِها الأخيرِ للتوجُّه نفسِه؛ فقد لجأ كلٌّ من أردوغانَ وعبدِ الحميد الثاني إلى الاتِّشاح بزِيِّ «الأممية الإسلامية» لحشدِ مسلمي العالمِ من حولهما، بهدفٍ حقيقيٍّ هو تأمينُ مكانٍ رئيسٍ لتركيا على الساحةِ العالمية.

إن التحوُّلَ المحوريَّ التركيَّ تجاهَ الشرقِ ليس سوى محاولةٍ من حزب العدالة والتنمية للحفاظ على السلطة الداخلية. وكما فشلَت الإمبراطوريةُ العثمانيةُ في الحفاظ على ولاء وِلاياتها العربيةِ، فإنَّ السياسةَ الخارجيةَ التركية الحاليّة تُواجهُ ردودَ فعلٍ إقليميّةً قويّةً. وقد ظهر تأثيرُ هذه السياساتِ أيضاً على الشعب التركيِّ، الذي انصرفَ عن حزبِ العدالةِ والتنمية، وصوَّتَ لصالح أحزابِ المعارضة بأعدادٍ أكبرَ من ذي قبلُ. حتى إن أعضاءَ حزبِ أردوغانَ أنفسَهم عارضوا سياساتِه. وتُواجهُ طموحاتُ أردوغانَ العابرةُ للحدود تحدياتٍ كبيرةً؛ جرّاءَ المشكلاتِ الاقتصادية المتزايدة للشعب التركي، الذي بدأ يصرِفُ وجهَه عن حزب العدالة والتنمية، باحثاً عن بدائلَ له.

 

المصدر: icsr

النشرة البريدية

سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!

تابعونا على

تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر