أحدث فضيحة مصرفية في جورجيا تختبر حدود مؤسساتها الديمقراطية | مركز سمت للدراسات

أحدث فضيحة مصرفية في جورجيا تختبر حدود مؤسساتها الديمقراطية

التاريخ والوقت : الثلاثاء, 16 أبريل 2019

إيلين ميليكشفيلي

 

في التاسع من فبراير 2019 واجهت حكومة جورجيا مشكلة جديدة حينما تناثرت أخبار الهجوم على بنك TBC، وهو أحد أكبر البنوك الحكومية في البلاد.

وقد قام كلٌّ من “البنك المركزي الجورجي” و”المدعي العام” بالتحقيق مع بنك TBCالذي يعدُّ أنجح المشروعات التجارية في جورجيا منذ الاستقلال، حيث تأسس على يد “ماموكا خازارادزه” الذي شارك في تأسيس اتحاد “أناكليا” للتنمية Anaklia Development Consortium. ويقوم هذا الاتحاد ببناء أول ميناء في أعالي البحار بجورجيا. وتُجسد إنجازات بنك TBCنجاح اقتصاد السوق في جورجيا في مرحلة “ما بعد الشيوعية”. ومع ذلك، توجه الحكومة اتهامات للبنك بسوء السلوك المالي وعمليات محتملة لغسيل الأموال.

ويعود تاريخ الادعاءات الموجهة لبنك TBC إلى إحدى الصفقات التي تمَّ إجراؤها عام 2008 خلال الأزمة المالية التي ضربت الاقتصاد العالمي في شهر أغسطس عام 2008. ويزعم المسؤولون الحكوميون أن البنك قد انتهك قواعد السلوك المالي المعمول بها، وقام بتنفيذ عمليات خارج الإطار القانوني. ومع ذلك، فإن القضية يبلغ عمرها 11 عامًا، وسقطت بالتقادم وفقًا للقانون الجورجي، وهو ما يعني أن الدعوى التي رفعها “البنك المركزي الجورجي” ضد البنك غير قانونية. وفي الوقت نفسه، أجرت شركة “دينتونز للمحاماة الدولية” فحصًا دقيقًا لملفات البنك، واستبعدت أية مزاعم أو شبهات حول قيام البنك بممارسات غسيل الأموال. ووفقًا لـ”خازارادزه” Khazaradze نفسه، فقد أجرت شركة “بي دبليو سي” PwCعملية تدقيق ومراجعة لأعمال البنك، ولم ترصد أية مخالفات أو آثار لأي سلوك مخالف. وبجانب خرق القانون، تهدد السياسات الحكومية أحد أهم المشروعات الاستثمارية في جورجيا وهو ميناء أعالي البحار في “أناكليا”.

ويتمتع مشروع “أناكليا” بأهمية استراتيجية بالنسبة للاقتصاد الجورجي، ويمثل مركزًا تجاريًا بين أوروبا وآسيا. وتمتلك الموانئ الجورجية حاليًا القدرة على استقبال ما يقرب من 25% من أسطول التجارة العالمي، ويبلغ عمق أكبر ميناء في “بوتي” 9 أمتار. بينما يصل عمق ميناء “أناكليا” إلى 20 مترًا بما يسمح لخدمة سفن الشحن التي تصل حمولتها إلى أكثر من 1400 طن. ويمتاز الميناء أيضًا بإمكانية تعزيز التفاعل بين كل من جورجيا وأبخازيا، حيث تقع المدينة بجوار خط “إنغور” الذي يفصل بين جورجيا وأبخازيا. وبالنظر إلى الأهمية الاقتصادية والسياسية للمشروع، نجد أن التصرفات الحكومية تثير القلق، فمثل هذا التصرفات تنطوي على تداعيات أكبر على الوضع الجيوسياسي والاقتصادي لجورجيا. ويبدو أن الهجوم على بنك TBC هو دعاية سياسية تعرِّض وضع جورجيا الاقتصادي ومناخ الاستثمار فيها للقلق.

وبعد الدعوى المرفوعة ضد البنك، أثارت الحكومة الجورجية مشروع “أناكليا” بشكل تدريجي، إذ خاطبت وزيرة البنية التحتية والتنمية الإقليمية “ميا تسكيتشفيلي”، البرلمان الجورجي، قائلة: إنه بإمكان الدولة مراجعة القرار السابق الذي أسند المشروع إلى “الكونسورتيوم”، وأشارت إلى إمكانية البحث عن مستثمرين محتملين آخرين في حالة عدم تمكن “الكونسورتيوم” من إكمال المشروع بنجاح. والملاحظ على ذلك أن الحكومة تمارس ضغوطًا لا داعي لها على الاقتصاد، بينما تطمئن الجمهور بإنهاء عملية بناء الميناء الجديد. وكانت الحكومة تعاقدت حديثًا مع شركة المحاماة White & Case لدراسة المخاطر والتكاليف إذا قررت الحكومة فسخ العقد مع “الكونسورتيوم”.

وتجدر الإشارة إلى أن الحكومة تدفع 80 ألف دولار من أموال دافعي الضرائب لدراسة السياسات الحكومية التي أحيانًا ما يكون لها عواقب اقتصادية وسياسية كارثية. وإن موقف الحكومة الأخير ينطوي على سابقة ضارة تسمح للحكومة بالتهرب من التزاماتها. فالحكومة بذلك في طريقها لمعاقبة مشروع تجاري جورجي لديه طموحات ومبادرات دولية. لكن الأهم أن تصرفات الحكومة تظهر أن سيادة القانون تتعرض للتهديد فيما يفترض أنها ديمقراطية ليبرالية عندما تكشف عن نيتها إلغاء الاتفاق الذي ينطوي على التزامات قانونية.

الديمقراطية الجورجية في مأزق

قبل أسابيع أعلن “دوم دي وال” أن التهديد الرئيس لجورجيا يكمن داخل البلد نفسه. وفي الواقع، فإن التطورات الأخيرة تثبت وجهة نظر “دي وال”؛ لأن إساءة استخدام السلطة تهدد مصالح جورجيا الاستراتيجية وتعرض النظام المصرفي بها للخطر. فالحكومة تمارس ضغوطًا على المشاريع التي تجعل جورجيا قصة نجاح وشريكًا موثوقًا به، وهو ما ينطوي على تهديد للمبادرات التي من شأنهاجذب الأقاليم التي فيهانزعات انفصالية. ومن خلال الممارسات التي تخيف الشركات، فإن الحكومة ترسل رسائل خاطئة للمستثمرين المحتملين بما يعرض النمو الاقتصادي للخطر.

ويشير أمر كهذا إلى السلبيات التي تتضمنها القضايا المتعلقة بسيادة القانون وإفقار الديمقراطية. فوفقًا لوحدة “المعلومات الاقتصادية”، فإن المسار الديمقراطي لجورجيا يشهد تحسنًا ملحوظًا. لكن في الوقت نفسه، فإن الفئة القليلة المؤثرة بنفوذها تحد من التعددية. وبعبارة أخرى، فإن خط الصواب ليس واضحًا بشكل كافٍ. ويبدو أن جورجيا تميل نحو ما يسميه “لاري دياموند” “الحكم الاستبدادي لما بعد الحداثة”، وهو نظام يترك الشكل الخارجي للمؤسسات الديمقراطية دون مساس، لكنه يحرم البلاد من جوهر التعددية، مما يجعل من المستحيل تقريبًا هزيمة الحزب الحاكم من خلال عملية سياسية طبيعية.

وبذلك، فإن “البنك المركزي الجورجي” ومكتب المدعي العام، ينتهكان القانون حينما يقومان بهدم القواعد المعمول بها. فالحزب الحاكم يهيمن على البرلمان، وتتمتع القلة الحاكمة “الأولويجاركية” بالنفاذ السهل إلى بعض المؤسسات بما في ذلك القضاء. ثم إن غياب سيادة القانون يشكل التحدي الأكبر للديمقراطية في جورجيا.

وعلى ذلك، فإن الهجمة الحالية ضد بنك TBC تثير العديد من التساؤلات التي لا توجد لها إجابة، والتي تتعلق في مجملها بالتكاليف الاقتصادية والسياسية للقضية. ومن ثَمَّ، فمع تركيز الحزب الحاكم على السلطة، تبدأ الأوليات السياسية في التغير، إذ يتحول البلد نحو “الحكم الاستبدادي لما بعد الحداثة” حيث توجد الضوابط والتوازنات في الواجهة، لكنها لا تكون ضامنة للديمقراطية الليبرالية الحقيقية.

وتجدر الإشارة إلى أنَّ مثل هذه القضايا ليست بالجديدة على جورجيا، إذ يرى “دياموند” أن المشاكل الديمقراطية في جورجيا بدأت عام 2008 عندما كانت هناك حالات من الاحتيال وإساءة استخدام السلطة التنفيذية خلال الانتخابات. وكان حزب الحركة الوطنية UNMالحاكم – آنذاك – قلل من أهمية المؤسسات المستقلة، ونتيجة لذلك فإنها خسرت الانتخابات البرلمانية التي أجريت عام 2012، وكذلك الانتخابات الرئاسية التي أجريت عام 2013. ومع ذلك، فقد شهد عام 2012 تشكل ائتلاف جديد كان يمثل فرصة لدعم التغييرات الديمقراطية.

وكما تقول “دوغلاس نورث”، فإن المؤسسات تنشئ الحوافز التعاونية والتنافسية في المجتمع بموجب قواعده الإجرائية، التي يتم تصميمها بغرض تقييد سلوك الأفراد لصالح النظام الاجتماعي ورفاهية المجتمع. ومع ذلك، فبدلاً من تعزيز المؤسسات القائمة، تبنت السلطة تعديلات دستورية حرمت الجمهور من المشاركة في الانتخابات الرئاسية المباشرة.

لقد أعطى المدعي حينها الأولوية لتعزيز السلطة بدلاً من دعم المؤسسات القائمة. وبدلاً من بناء مجتمع شامل، والبحث عن توافق في الآراء، واصل الحزب الحاكم الاستقطاب في العملية السياسية، وتبنى حملة ترويجية زائفة لاستعادة العدالة والازدهار الاقتصادي المستحيل بسبب الافتقار للديمقراطية والإرادة السياسية لتنفيذ المرحلة التالية من الإصلاحات. ورغم الوعود التي انتشرت في تلك المرحلة، فإن حزبًا سياسيًا ذا تراتبية هرمية صارمة تشكل على أساس الولاء غير المشروط لمؤسسه، وهو ما انعكس على تراجع مستوى المشاركة السياسية، وبخاصة مع موجات تشويه المعارضة. وقد تسبب تراجع المشاركة السياسية في الحاجة للمزيد من توطيد السلطة ما أدى إلى أزمة تواجه السلطة الحاكمة.

والآن، فإن المجتمع الجورجي لديه خياران: إمَّا الانغماس في أزمة جديدة مع “استبداد لما بعد الحداثة”، أو الدفاع عن القيم والحرية للحفاظ على الإنجازات التي حققها الجورجيون خلال العقود الأخيرة. ومن ثَمَّ، يمكنهم المطالبة بحماية النظام المالي وإجبار الحكومة على الامتثال لقواعد وأعراف الديمقراطية الليبرالية.

إن حالة مشروع “أناكليا” الذي ينفذه بنك TBC تمثل اختبارًا للحكومة يجب أن تجتازه بنجاح. والآن يحتاج المجتمع إلى تعلم درس تقاسم السلطة بين الحكومة والحكام غير الرسميين.

وتبدو الحكومة مطالبة بحماية المؤسسات وتعزيز حكم القانون لدعم مبادئ الحرية والتعددية. ومن ثَمَّ، ينبغي أن يفهم الجميع في جورجيا أن حماية الشركات الخاصة من الضغوط غير المبررة، هو الضمان الوحيد للحرية وسيادة القانون. بعبارة أخرى، إذا سُمِح للحكومة بالتدخلبشكل غير قانوني في المشاريع الخاصة، فحينها يمكن أن تصل إلى الفئات الأكثر ضعفًا.

 

إعداد: وحدة الترجمات بمركز سمت للدراسات

المصدر: معهد أبحاث السياسة الخارجية

النشرة البريدية

سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!

تابعونا على

تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر