سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
د. تامر هاشم
في 15 سبتمبر، أعلن مدير قسم آسيا وإفريقيا في وزارة الخارجية الكازاخستانية، حيدر بيك توماتوف، أن المشاركين في محادثات أستانة الدولية حول سوريا، يتباحثون – حاليًا – في تحديد الأطراف المشاركة في مراقبة منطقة خفض التصعيد الرابعة في إدلب. وأوضح أن مراقبة الوضع في “منطقة خفض التصعيد” في إدلب، ستتولاها الدول الثلاث الضامنة للتسوية في سوريا، وأنه تمَّ الاتفاق على مسألة إنشاء لجنة ثلاثية بمشاركة روسيا وإيران وتركيا حولها.
إلى هنا، يمكن استنتاج أنَّ كلاً من روسيا وإيران وتركيا، تسعى حثيثًا إلى سحب الملف السوري بعيدًا عن واشنطن، وهذا هو السبب في رمزية انتقال المفاوضات السورية من جنيف إلى الأستانة. فأنقرة أصبحت تتشكك في نوايا واشنطن تجاهها، حيث ترى أن واشنطن تسعى لتقزيم الدور الإقليمي للعثمانيين الجدد، فقد رفضت واشنطن تسليم فتح الله جولن المتهم من جانب أنقرة بتدبير الانقلاب المزعوم. كما أن واشنطن لم تتدخل لدى برلين لإيقاف تدهور العلاقات بين تركيا والاتحاد الأوروبي، كما كانت تفعل من قبل، والأخطر أن الولايات المتحدة من خلال دعمها لقوات سوريا الديمقراطية (أكراد سوريا)، أصبحت تهدد الأمن القومي التركي؛ إذ إن أنقرة لا تفرِّق بين قوات سوريا الديمقراطية السورية، وحزب العمال الكردستاني التركي.
أما إيران، فهي تسعى بكل السبل للحفاظ على نفوذها في سوريا وضمان استمرار قوس النفوذ الذي يبدأ من الخليج العربي، وينتهي على شواطئ لبنان على البحر المتوسط؛ إذ تعتقد إيران أن هذا القوس، يشكل خط الدفاع الأهم عن برنامجيها: النووي والصاروخي.
وأخيرًا.. روسيا، فهي تهدف إلى تعزيز وإضفاء الشرعية على وجودها العسكري في سوريا، خاصة أن هذا الوجود، أصبح مهمًا لكلٍّ من بيروت والقاهرة. فلبنان تأمل من موسكو، أن تلعب دورًا إيجابيًا في تنظيم عودة النازحين السوريين إلى ديارهم، من خلال خطة مناطق خفض التصعيد، ومن ثم تخفيف الضغوط المالية والاقتصادية والديموغرافية التي يمثلها وجود اللاجئين السوريين على الأراضي اللبنانية. أما القاهرة، فتأمل أن تتمكن روسيا من ضبط الأوضاع على الأراضي السورية، والحيلولة دون تحول سوريا إلى أفغانستان جديدة كمركز للإرهاب الدولي، وإيقاف جسر نقل الإرهابيين من سوريا إلى سيناء، خاصة بعد أن تمكن العديد من العائدين من سوريا من التسلل إلى سيناء والوصول إلى العمق المصري.
وقد شكلت كازاخستان، الحاضنة المناسبة للدول الثلاث. فتركيا كانت أول دولة تعترف باستقلال كازاخستان في عام1991، ثم أقامت العلاقات الدبلوماسية معها بعد عام واحد. كما يربط البلدين اتفاقية نفطية، منها: خط أنابيب باكو- تبليسي- جيهان الموقعة عام 1998، التي فتحت الأبواب أمام تقارب تركي كازاخي لتصدير النفط إلى تركيا، وعبرها إلى أوروبا. كما امتدت علاقات التعاون الثنائية إلى المجال العسكري، ابتداء من عام 2003. ولا يمكن تجاهل تأثير العامل الثقافي واللغوي، الذي لعب دورًا مهمًا في تقريب العلاقات، خصوصًا مع قمة إنشاء الأكاديمية التركية في الأستانة عام 2010، وقمة الدول الناطقة بالتركية عام 2011 في ألماتا.
أما إيران، فرغم أن روح التنافس تشكل جوهر العلاقات الإيرانية الكازاخية، إذ تختلف الدولتان حول تحديد النظام القانوني لتقسيم ثروات بحر قزوين، كذلك المشروعات المستقبلية لخطوط نقل الطاقة (النفط والغاز الطبيعي)؛ فإن الطرفين يجمعهما هاجس الوجود العسكري الأمريكي في دول آسيا الوسطى وبحر قزوين؛ لما يشكله هذا الوجود من تأثير مباشر على الاستقرار الأمني والاقتصادي لكلٍّ من الدولتين، خصوصًا في ضوء التوجه الأمريكي لتغيير مسارات خطوط أنابيب الطاقة إلى بدائل أخرى، رغم أنها ليست أفضل البدائل اقتصاديًا.
أما موسكو، فهي تعتبر أن كازاخستان تُمثِّل أهم دائرة نفوذ لها خارج أراضيها، خاصة بعد فقدان أوكرانيا ودول البلطيق؛ لذا يشهد النفوذ الروسي الاقتصادي تناميًا في كازاخستان منذ وصول الرئيس فلاديمير بوتين إلى الكرملين في عام 2000، كما تُمثِّل كازاخستان محطة بالغة الأهمية في استراتيجية النفط والغاز الروسية، حيث تتحكم الشركة الروسية العملاقة «غاز بروم» بمعظم إنتاج كازاخستان المستقبلي من الغاز الطبيعي، عبر ارتباطه بمنشأة مشتركة بين موسكو والأستانة في أورنبرغ، لتكرير الغاز وتصديره. وتنتشر الشركات الروسية في كامل الجسد الاقتصادي الكازاخي، مسيطرة على إنتاج اليورانيوم والذهب، والاتصالات الخلوية.
غير أنَّ اللافت للنظر، كان إعلان رئيس كازاخستان، نور سلطان نزار باييف، أن بلاده سترسل عسكرييها إلى مناطق خفض التوتر في سوريا، في حال اتخاذ مجلس الأمن الدولي، قرارًا بإرسال مراقبين إلى هناك، وهو ما يوحي بأن لكازاخستان طموحات خاصة بها، تتعلق بلعب دور في منطقة الشرق الأوسط. فما الذي يحدث؟
بداية، يمكن القول إن إمكانية دمج منطقتي الشرق الأوسط، وآسيا الوسطى، طُرحت أمريكيًا إبان إدارة الرئيس (بوش الابن) من خلال “مشروع الشرق الأوسط الكبير”، ثم طُرحت أيضًا من قبل الصين من خلال “مشروع طريق الحرير”. فمسألة دمج آسيا الوسطى في الشرق الأوسط، أصبحت تحظى بأهمية بالغة، باعتبار أن الكيان الجديد يمثل تقاطعًا وممرًا ضروريًا للوصول إلى أوروبا، وشمال المتوسط، وإفريقيا، عبر منافذها البرية والبحرية.
وتعدُّ كازاخستان من أكثر الدول المهيأة للعب دور الجسر بين المنطقتين، فهي من الناحية الجيواستراتيجية، تعدُّ بلدًا عابرًا للقارات، وتقع بشكل رئيسي في شمال آسيا الوسطى، وجزئيًا في أوروبا الشرقية (غرب نهر الأورال). واستقر – سابقًا – الفرسان البدو الأتراك في سهوبها. وقد كانت كازاخستان، محل نزاع على النفوذ بين الحضارتين الصينية والروسية، ومرت بأحلاف وصدامات عسكرية، لتنتهي بالوصاية الروسية، ثم الحكم المباشر لموسكو في القرن التاسع عشر، واستطاع القياصرة الروس حكم كل الأراضي الكازاخية حتى عام 1907.
لقد استفاد الرئيس الكازاخي، نور الدين نزار باييف، من هذا الوضع في طموحاته ومخططاته الهادفة، لأن تلعب بلاده دورًا سياسيًا إقليميًا، وإسلاميًا ودوليًا، يمكنها من الإفلات من الكماشة الروسية الصينية. وتستند تلك المخططات على مساحة شاسعة لبلاده، تصل إلى مليونين وسبعمئة ألف كيلو متر مربع، وعلى إنتاج ضخم من الغاز والبترول؛ إذ من المتوقع أن يحتل موقعًا متقدمًا بين منتجي البترول الكبار في عام 2012، كما يحتل المركز الأول عالميًا في إنتاج اليورانيوم، والخامس في إنتاج القمح بمتوسط إنتاجية تصل إلى 20 مليون طن هي الأجود عالميًا، واستثمارات خارجية تجاوزت 75 مليار دولار.
والجدير بالذكر، أن هذه الطموحات والخطط – وإن ارتبطت حتى الآن بشخص الرئيس نور سلطان نزار باييف (75 عامًا) – تتسم في الوقت نفسه بالاستمرارية، خاصة بعد قراره في العام الماضي، تعيين ابنته داريغا نزار باييف (52 عامًا) في منصب نائب رئيس الوزراء، وذلك في عمل وصفه المراقبون بالخطوة التي تمهد الطريق أمامها لخلافة والدها.
ويوفر الملف السوري، بتشعباته وتطوراته المتلاحقة، الفرصة لكازاخستان للولوج إلى الشرق الأوسط سياسيًا وعسكريًا، خاصة في ظل إعلان روسيا عن خطط لتقليص الإنفاق العسكري في ميزانية 2018؛ نتيجة الأزمة الاقتصادية العالمية، والعقوبات المفروضة عليها من قبل الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، ما سينعكس على حجم ونوعية الوجود العسكري الروسي في سوريا.
من جانب آخر، سيمكن هذا الوجود، كازاخستان من ضبط ملف الإرهاب الذي يؤرق السلطات، حيث تنشط العديد من التنظيمات الإرهابية على الأراضي الكازاخية، مثل: مجموعة “جند الخلافة” التي تقوم بعمليات نوعية تهدد استقرار الدولة. وفي نفس الوقت، تضم صفوف “داعش” في سوريا والعراق حوالي400 مواطن من كازاخستان، ويأتي هذا البلد في المرتبة الثانية بعدد مواطنيه المتورطين مع “داعش”، بعد روسيا التي تحتل المرتبة الأولى بين بلدان رابطة الدول المستقلة.
أخيرًا.. في الملف النفطي، تنشط العديد من شركات النفط الأمريكية، مستخدمة المستشار السابق للبنتاغون، ريتشارد بيرل، وأحد مهندسي غزو العراق، كوسيط لاستكشف إمكانية القيام بأعمال في قطاع النفط في كردستان في شمالي العراق وكازاخستان.
حتى الآن، لم تتضح الأبعاد الكاملة للدور الذي تريد أن تلعبه كازاخستان في سوريا، لكن المؤشرات الأولية تشير إلى أن الوجود الكازاخي هناك، سيكون مفيدًا؛ لأنه سيكون – بالتأكيد – على حساب إيران، وسيوفر للدول العربية طرفًا يمكن التفاهم معه. وهذا ما يجب على الدول العربية أن تستغله بقوة، وأن تسعى – في المقابل – لبناء دائرة نفوذ لها عند بحر قزوين، وتهديد المصالح الإيرانية هناك.
والجدير بالذكر هنا، أن الرياض تدرك جيدًا القيمة الاستراتيجية لكازاخستان، إذ سعت لتعزيز العلاقات بين البلدين من خلال بناء شبكة متكاملة من المصالح المتنوعة التي تجعل من الأستانة إضافة للرياض، وخصمًا للقوة الإيرانية، وآخرها كان في العام الماضي، حينما شهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان، والرئيس نزار باييف، توقيع مذكرة تفاهم في مجال الزراعة والثروة الحيوانية، وتوقيع اتفاقية للتعاون في مجال الاستخدامات السلمية للطاقة الذرية.
أكاديمي وباحث في العلوم السياسية*
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر