بعد الحرب الروسية-الأوكرانية، تصاعد النقاش حول دور “بريكس”، وسط أنباء عن نية أعضاء المجموعة إصدار “عملة” تداول جديدة بديلة عن الدولار. عربيًا أبدت عدة دول “اهتمامها” بالانضمام لهذا التجمع الذي يراه البعض يمثل قوة صاعدة لا ينبغي اهمالها. يناقش هذا التقرير (الطموحات والتحديات) التي توجه “بريكس”، وجدوى انضمام دول عربية، وبالتحديد خليجية لهذا التجمع.

نظرية “التراجع” الأميركي

شهدت نهاية القرن العشرين (1991-2001) ذروة الهيمنة الغربية بقيادة الولايات المتحدة الأميركية على كافة المستويات. مقابل تفكك الاتحاد السوفيتي وحلف وارسو العسكري ودول الكتلة الشرقية، وتقسيم تشيكوسلوفاكيا ويوغسلافيا، واستعادت ألمانيا وحدتها (1989)، وتأسس الاتحاد الأوروبي (1993)، ومجموعة الدول الصناعية السبع G7 عام 1997.

مثلت أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، وما أعقبها من تورط واشنطن في حروب أفغانستان والعراق، وما تسمى الحرب العالمية على الإرهاب GWOT، نهاية لهذا العقد من الأحادية القطبية المُطلقة. يعتقد البعض أن قوة أميركا قد “تراجعت” تبدو هذه النظرية “صحيحة” لو تم قياسها على ما كانت عليه من قوة في ذلك العقد، لكن عند النظر للظروف العالمية، قد يختلف التقييم بشكل كبير. أولاً، تتجاهل نظرية “التراجع” الأميركي، أن نصف أوروبا وآسيا، وغالبية بلدان أفريقيا، وجزء كبير من بلدان الشرق الأوسط وأميركا اللاتينية والكاريبي، كانوا إما جزء من المعسكر الاشتراكي أو حلفاء له. ثانيًا، أن العديد من الدول التي كانت واقعة تحت الاستعمار قد نالت استقلالها، وبدأت في بناء قوتها الذاتية، وهي رقم كبير لم يكن موجود في المعادلة من قبل. ثالثًا، العالم أكبر وأعقد من يدار من خلال قوى واحدة ووحيدة، ولم يحدث هذا عبر التاريخ، كان الاستثناء في ذلك العقد نتيجة للفراغ الذي خلفه الانهيار المفاجئ والسريع للمعسكر الشرقي، وعدم وجود قوى بديلة جاهزة.

ما يبدو أكثر واقعية، أن الآخرين قد استعادوا عافيتهم بعد استيعاب صدمة انهيار المعسكر الشرقي، وفقدان العالم للتوازن الذي استمر من 1947-1991، وحدوث التطور الطبيعي لتوزيع القوى حول العالم، وعلى الرغم من ذلك ظلت الولايات المتحدة (حتى الآن وإلى المدى المتوسط على الأقل) متفوقة على الجميع وإن لم تكن القوة الوحيدة، حيث كان ما سبق حالة استثنائية لا تصلح لكي تكون قاعدة كما تصورها البعض، وبنا عليها هذه النظرية.

مجموعة بريكس ونظرية الاحتواء الغربي

في ورقة بحثية بتاريخ 30 نوفمبر عام 2001 صاغ جيم أونيل Jim O’Neill، الرئيس السابق لشركة غولدمان ساكس لإدارة الأصول. مصطلح بريكس BRICS، مختصر الأحرف الأولى للدول الأسرع نموًا اقتصاديًا على مستوى العالم في ذلك الوقت: (البرازيل، وروسيا، والهند، والصين، وجنوب أفريقيا). ربما قد يتفاجأ البعض أن مشروع “بريكس” الذي جرى تصويره على أنه “مناهض” للغرب فكرة غربية في الأساس، سبقت مبادرة بوتين بخمس سنوات.

استشعر العديد من المفكرين والباحثين الغربيين مبكرًا خطر حصر العضوية في “النادي” العالمي الجديد على الغرب الجماعي، والحاجة لاستيعاب القوى الجديدة الصاعدة، محذرين من أن تجاهلها قد يؤدي لـ”تحالف” بين “الساخطين” من القوى العظمى القديمة التي تراجعت بجانب “الطامحين” من القوى الجديدة الصاعدة، لتشكيل كتلة اقتصادية ذات معايير خاصة تؤهلها لاحقًا لتقديم نموذج اقتصادي بديل عن الغرب كما كان عليه الحال زمن الحرب الباردة. كان من هؤلاء، جيم أونيل (صاحب الفكرة) الذي بجانب موقعه في غولدمان ساكس، شغل منصب وزير الخزانة البريطانية.

تتلخص نظرية أونيل، التي صاغها في ورقته البحثية عام 2001 في أن: “العالم بات أكبر وأوسع من الغرب وحلفاءه، وضرورة احتواء القوى الصاعدة الجديدة في تجمع خاص بها، لضمان ارتباطها بالنظم المالية والاقتصادية الغربية، وهو ما سيضمن عدم قدرتها لاحقًا (حتى لو أرادت) على الانفصال، وبالتالي احتواءها لضمان التفوق الغربي مع فتح مجال المشاركة لمنح هذه القوى دور في النظام العالمي الجديد”.

توافقت هذه النظرية مع طموحات الرئيس بوتين، الذي بادر بالدعوة لتحويل الفكرة إلى واقع عملي عام 2006، بعدما ثبت أقدامه في الداخل، وقد ساعدته السياسات الأميركية بشكل غير مباشر على ذلك: وفرت له الحرب الأميركية على الإرهاب، الفرصة للقضاء على “التمرد” في الشيشان بالوسائل العسكرية دون تعرض روسيا لانتقادات غربية كما حدث في حرب الشيشان الأولى (1994-1996)، وارتفاع أسعار النفط (أقل من 25 دولار للبرميل عام 2003، إلى أكثر من 75 دولار للبرميل في منتصف 2006)، وهو ما ساهم في ارتفاع مستوى معيشة الروس لأول مرة منذ تفكك الاتحاد السوفيتي.

مجموعة “بريكس” صيحة باتجاه الغرب

على وقع المتغيرات التي شهدها العالم بعد أحداث 11 سبتمبر، اعتقدت بعض القوى أن هناك حاجة لتأسيس “نظام عالمي جديد”، لم يكن غرضه هدم ما هو موجود بل توسيع المشاركة، وعدم اقتصاره على القوى الغربية وحلفائها.

  • روسيا، رأت أن ما كان بينها وبين الغرب من صراع قد أنتهى بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وتخليها عن الأيديولوجية الاشتراكية، وتفكيك حلف وارسو العسكري، وأنها “تستحق” مكانة مميزة تتمتع بها في مجالها السوفيتي السابق، بالنظر لحجمها ومواردها وقوتها العسكرية والنووية.
  • الصين، استعادت سيادتها عام 1997 على هونغ كونغ، وتحولت من دولة تكافح لأجل القضاء على الفقر والمجاعة لقوى اقتصادية رائدة على المستوى العالمي.
  • البرازيل، تخلصت من إرث الديكتاتورية العسكرية، وأصبحت القوة الاقتصادية والسكانية رقم واحد في أميركا الجنوبية.
  • الهند، باتت قوة نووية واقتصادية كبرى، وتصنف على أنها أكبر ديمقراطية في العالم من حيث عدد السكان.
  • جنوب أفريقيا، القوة الأكثر تطورًا في أفريقيا، والمنفتحة على العالم بعد نهاية حقبة الفصل العنصري.

لم يدعي أي بلد من مؤسسي هذا التجمع أنهم يسعون لتشكيل بديل عن الغرب و/أو الانفصال عنه أو تحديه، بل كان التجمع عبارة عن “نادي” لمجموعة من الساخطين على تراجع قوتهم “روسيا” في المقام الأول. والراغبين في استعادة مجدهم وتثبيت مكانتهم الجديدة “الصين. ولاعبين جدد لديهم طموح بحجز مكان في النظام العالمي الجديد. اللافت أيضًا في هذا التجمع بعد مرور 14 عام على عقد قمته الأولى، فشل أعضاءه في تأسيس منطقة تجارة حرة أو تحرير لتأشيرة الدخول أو العمل والإقامة.

تبدو مجموعة “بريكس”، مجرد صيحة باتجاه الغرب “نحن هنا”، غرضها لفت انتباه القوى الغربية بان العالم لم يعد حكرًا عليها، وأن هناك حاجة لشكل من أشكال “المشاركة” بشروط مواتية، بينما خلافًا لذلك كل عضو من أعضاء المجموعة لديه أهدافه الخاصة التي لا تتوافق مع الآخر وحسب، بل وقد تكون متضاربة.

ماذا حققت “بريكس”

عند النظر إلى النتائج التي حققتها مجموعة “بريكس” بعد مرور العقد الأول من تأسيسها، نجدها ليست متواضعة فحسب، بل لا تكاد تذكر. على سبيل المثال، وفق الاحصائيات الروسية في عام 2017 أكثر من 50% من حجم التجارة الاقتصادية الخارجية لروسيا كانت مع الاتحاد الأوروبي، كما كان له نصيب الأسد من الاستثمار الأجنبي المباشر. شكلت الصين حوالي 8.4% من حجم التجارة الخارجية، والهند 1.6%، والبرازيل 1%، وجنوب أفريقيا أقل من 0.1%.

بعد فرض العقوبات الغربية الأولية على روسيا عام 2014، نمت حصة الصين فقط بشكل كبير وصولاً إلى 14.1%. بينما تجمدت حصة الهند عند 1.6%، وتراجعت حصة البرازيل إلى 0.9%، وجنوب إفريقيا إلى 0.2% من حجم التجارة الخارجية لروسيا. يبدو الاستثمار من دول “بريكس” أقل إثارة للإعجاب، حتى أن أكثر دول “بريكس” أهمية اقتصاديًا لروسيا – الصين – استثمرت حوالي 500 مليون دولار في روسيا في عام 2016، وهو ما يعادل 0.3% من جميع الاستثمارات الصينية الصادرة قبلها بعام. الترويج الدعائي بأن اقتصادات “بريكس” وصلت عام 2017 إلى 31% من الاقتصاد العالمي بأكمله، لا يراعي أنه بدون الصين والهند، فإن هذا الرقم سيتقلص بشكل سنوي بالنسبة لباقي الأعضاء.

على المستوى العسكري، لا يوجد تنسيق بين أعضاء المجموعة، وفي عام 2020 حدثت مناوشات حدودية بين الهند والصين، كادت أن تتحول إلى حرب بين البلدين، ولم يكن هناك أي دور لمجموعة “بريكس” أو أي من أعضاءها في نزع فتيل الأزمة.

الاستنتاجات

  • نشأت مجموعة “بريكس” كفكرة غربية، هدفها احتواء الاقتصادات الصاعدة، وضمان عدم خروجها عن مركزية النظام الاقتصادي والمالي الغربي.
  • التقطت روسيا والصين، الفكرة وباقي القوى الأخرى المشاركة، وفق هدف واضح ومحدد “المشاركة في النظام العالمي غربي التأسيس لا هدمه أو بناء بديل عنه”، كون هذه القوى أكثر من استفادت من هذا النظام الذي ساهم بشكل مباشر في صعودها مع عدم امتلاكها لبديل.
  • لا يتوقع أن تتحول مجموعة “بريكس” لفضاء اقتصادي حر على غرار التجمعات الاقتصادية المماثلة و/أو إصدار عملة مشتركة على غرار الاتحاد الأوروبي و/أو فتح مجال السفر والإقامة والعمل بين أعضاء المجموعة فضلاً عن إقامة تحالف عسكري، لأن التباينات والخلافات وفقدان الثقة يغلب على علاقات البلدان الخمسة المؤسسين.
  • تفتقد مجموعة “بريكس” لأي تجانس فيما بين أعضاءها، وعدم وجود قيم مشتركة:
  1. البرازيل، أقرب إلى الولايات المتحدة، لا يربطها مع باقي أعضاء المجموعة روابط جغرافية أو ثقافية أو اقتصادية، ومازالت مؤسساتها غير مستقرة وعرضة لتقلبات السياسة ما بين اليمين واليسار.
  2. جنوب أفريقيا، بعيدة عن كافة دول المجموعة، علاقتها عميقة بالغرب ولا يمكن أن تدخل في تحدي مباشر، وقد ظهر ذلك بوضوح عبر طلبها الأخير من الرئيس بوتين، عدم حضور القمة بسبب مذكرة التوقيف الصادرة ضده من المحكمة الجنائية الدولية.
  3. الهند، في نزاع حدودي وصراع جيواقتصادي مع الصين، وعضو رئيس في الحوار الأمني الرباعي Quad، الموجه بشكل أساسي تجاه بكين. بجانب تفاوت طبقي كبير بين مواطنيها، ونزاع تاريخي مع باكستان، وشقاق داخلي يمكن أن يتفجر في أي لحظة نتيجة صعود التيارات القومية الهندوسية. كما تعول الهند على الاستثمارات الغربية، وتشهد العلاقات بين نيودلهي وواشنطن، صعود غير مسبوق وصولاً لمستوى “التحالف الاستراتيجي”.
  4. الصين، لديها مشروعها الخاص “الحزام والطريق”، وتعتمد بشكل أساسي على الأسواق الغربية في تسويق منتجاتها، وأهدافها وطموحاتها مختلفة بشكل كبير عن باقي دول المجموعة.
  5. روسيا، تعتمد اقتصاديًا على مبيعات الطاقة، ومازالت متخلفة تقنيًا بالمقارنة بين باقي أعضاء المجموعة، وتعاني الآن من عقوبات غربية لم يسبق لها مثيل، وصراع مع أغلب جيرانها. الأهم، أن منظومة الحكم فيها غير مستقرة، فلا وجود لمؤسسات على غرار الولايات المتحدة، ولا حزب عقائدي مثل الحزب الشيوعي الصيني، ومستقبل سياساتها الخارجية مرهون ببقاء بوتين في السلطة، ويكتنفه الغموض من بعده.
  • في ظل هذا الوضع، ستظل المركزية الغربية في النظام المالي والاقتصادي، حتى لو تراجعت حصته هي المهيمنة على النظام العالمي في ظل غياب بديل آمن وموثوق وتم تجربته. وفقًا لجيم أونيل: “لكي يشكل أي عضو في بريكس (أو بريكس بلاس) تحديًا استراتيجيًا للدولار، فإنه سيتعين عليه السماح بتشجيع المدخرين والمستثمرين الأجانب والمحليين ليقرروا بأنفسهم متى يشترون أو يبيعون الأصول المقومة بعملتها. وهذا يعني عدم وجود ضوابط على رأس المال من النوع الذي تطبقه الصين بشكل روتيني. وإلى أن تتمكن دول ’بريكس‘ ودول ’بريكس بلس‘ المحتملة من إيجاد بديل موثوق به للدولار لمدخراتها الخاصة، فإن هيمنة الدولار الأميركي لن تكون موضع شك”.
  • الرابط المشترك الوحيد بين كافة أعضاء مجموعة “بريكس” الإعلان عن وجودهم كقوة جديدة تستحق المعاملة على قدم المساواة مع الغرب، خلافًا لذلك كل عضو له أهدافه وطموحاته ومشروعاته الخاصة.

أخيرًا، بناءً على ما سبق، يبدو الانضمام لهذه المجموعة بلا أي قيمة مضافة حقيقية، خصوصًا لدول الخليج العربية التي تتمتع بعلاقات جيدة مع كافة أعضاء المجموعة، ولديها مشروعات واتفاقيات مشتركة معها، بجانب علاقات التحالف التاريخي مع الولايات المتحدة والغرب. قد يكون الانضمام لتجمع “بريكس” في هذا الوقت بالذات، الذي يشهد فيه العالم حالة من الاستقطاب الحاد ينطوي على سلبيات عديدة، خصوصًا في ظل الحرب الإعلامية بين الغرب وروسيا، وتضخيم الأخيرة لأي خطوة تقارب عبر اعتبارها دليل على “نهاية” الهيمنة الغربية والدولار، مما قد يفسر على أنه انحياز لجانب روسيا والصين، ويفقد دول الخليج ميزتها الكبرى التي تتمتع بها وتمنحها دور أكبر على المسرح العالمي، وهي قدرتها على التواصل والتفاعل مع كافة الأطراف المتنافسة والمتصارعة.