في النظام الرأسمالي، تحسب قوة الاقتصاد لبلد ما بتراكم الثروات، لدى الأشخاص والشركات قبل الدولة. وتُعد مراكمة الثروة دليلاً على مدى صحة الاقتصاد، وتسهم بالأساس في معدلات النمو، وبالتالي توسع النشاط في كافة القطاعات.
وبما أن أمريكا هي صاحبة أكبر اقتصاد في العالم، فمن المنطقي أن يكون تراكم الثروات الخاصة فيها هو الأعلى نسبة بين دول العالم أجمع، والدول الرأسمالية المتقدمة منها بخاصة.
والحديث هنا ليس عن أغنى أغنياء العالم من المليارديرات أمثال بيل غيتس وإيلون ماسك وجيف بيزو، إنما عن المليونيرات الذين تتجاوز ثرواتهم الشخصية مليون دولار.
فوفق أحدث إحصاء قبل عامين، كان في الولايات المتحدة أكثر من اثنين وعشرين مليون شخص يُعتبرون مليونيرات يمثلون نحو سبعة في المئة من السكان.
هؤلاء الأغنياء من المليونيرات ليس كما يصورهم التلفزيون، يركبون السيارات الفارهة ويأكلون في المطاعم الفاخرة، ويقيمون في بيوت مميزة، إنما هم في كل مدينة وكل حي وسط بقية أبناء الطبقة الوسطى من الشريحة العليا من الطبقة العاملة. أي أنك في أي مدينة أمريكية قد يكون جارك الذي يسكن البيت المجاور لك، ومثل بيتك، مليونيراً، بينما أنت تكافح لسداد ما عليك من أقساط.
هناك مذيع راديو شهير يقدّم برامج حوارية يدعى كريس هوغان، ألف كتاباً بعنوان “المليونير العادي”، استغرق في إعداده وقتاً طويلاً، بحث خلاله حالة نحو عشرة آلاف مليونير، واستطلع آراءهم، وسألهم عن حياتهم. وقدّم في النهاية خلاصة بحثه عن كيف أصبح هؤلاء مليونيرات.
استضافت شبكة “سي إن بي سي” مقدم البرامج الإذاعية، ليقدّم حلقة قصيرة عن المليونيرات وطريقة تكوين ثرواتهم. بدت الحلقة خفيفة، وكأنها من باب “الترفيه الاقتصادي”، لكن الحقيقة أن الرسالة كان من ورائها إذكاء ما يسمى “الحلم الأمريكي” الذي يسمح لأي شخص بمراكمة الثروة، وأن يصبح مليونيراً.
لكن بعد مشاهدتها فكرت أن ما ذكره من سلوك هؤلاء المليونيرات ليس فيه ما يخص الأمريكيين وحدهم، بل يمكن لأي شخص في أي بلد اقتصاده سليم – حتى لو لم يكن اقتصاداً متقدماً أو صاعداً – إذا تحلى بتلك الصفات، والتزم بتلك الممارسات، أن يصبح مثل المليونيرات الأمريكيين. أي ببساطة يدخر ويراكم الثروة حتى يصبح لديه ما يفوق المليون.
إنها عقلية وطريقة تفكير ونمط سلوك صالح لكل مكان تقريباً، وبالتالي لا عجب أن يكون أي شخص في أي بلد من بلادنا مليونيراً، إذا التزم بهذه الطريقة مبكراً في حياته. وأهم عامل من بين تلك العوامل، هو ألا نلقي باللائمة على الظروف والأوضاع، ويعتبر المرء مصيره ليس بيده، وإنما تتحكم فيه أمور خارجة عن إرادته، وأنه لا حول له ولا قوة في تجاوزها.
فكل المليونيرات الذين بحث هوغان حالتهم وقابلهم، مقتنعون بأن مستقبلهم بيدهم، وليس بيد غيرهم، سواء كانت حكومة أو عملاً أو ناساً. ذلك هو الأساس الذي يجعل المرء يفكر بطريقة مختلفة، ويتخذ القرارات الصحيحة بشأن حياته في الوقت المناسب، بما يمكنه من الادخار، مهما كان دخله قليلاً أو كثيراً، ومهما كان عمله مرموقاً أو عادياً. فمثل هؤلاء لا يميلون للاقتراض لتلبية احتياجاتهم، ويحرصون على ألا يقعوا تحت وطأة أي ديون مهما كانت.
لكن كيف يمكنهم ذلك؟ ببساطة إنهم يعيشون بكلفة أقل مما يتحصلون عليه. أو بمعنى آخر “يمد لحافه على قدر رجليه”، كما يقول المثل. في المقابل نجد أكثرية من الناس تعيش دائماً بأكثر مما قُسم لها من الرزق، وبالتالي تقع في فخ الائتمان، وتظل غير قادرة على الادخار. ليس فقط الأفراد، بل حتى الدول والحكومات. فمنذ ما بعد الحرب العالمية الثانية تحولت الحكومات من الاقتراض فقط عند الضرورة، ونتيجة ظروف خارجية قاهرة مثل الحرب أو ما شابه إلى استسهال الاقتراض، لسد عجز الميزانيات الناجم عن زيادة الإنفاق العام عن الدخل القومي. المفارقة المثيرة أن الولايات المتحدة هي أكثر دولة في العالم تعيش بما يفوق بشدة دخلها، فهي تقترض المليارات يومياً من بقية العالم، سواء عبر بيع سندات الخزينة أو الأسهم والأوراق المالية الأخرى في السوق. والعالم كله حريص على إقراض الحكومة والشركات الأمريكية، لأنها من القوة، بما يضمن سداد ديونها والفوائد المستحقة عليها. لكن هذا أيضاً ساهم في فقاعة دين تغلي، ضمن فقاعة دين عالمي غير قابلة للاستدامة.
أما المليونيرات فهم يتصرفون عكس الحكومات، أي لا ينفقون إلا على ما يحتاجون إليه وبتدبير شديد الحرص، ويبحثون بكل جهد عن التنزيلات وقسائم الخصومات. بل حتى يقتصدون في شراء البقالة اليومية، ولا تغريهم دعايات التسويق، فيشترون ما يحتاجون إليه فقط. ولا يسرفون في الإنفاق على الخروجات غير الضرورية التي لا تزيد عن مرة في الأسبوع، وضمن ميزانية منزلية صارمة يتقيدون بها.
فلو أننا عشنا بما قسم لنا من رزق، أو اقتصدنا لنعيش بأقل منه دون تبرير الإسراف بالغلاء وغيره، والتزمنا بتدبير أمورنا المالية لأمكننا الادخار. حتى لو لم نصبح مليونيرات، فيمكن أن نقترب من ذلك، أو على الأقل لا تثقل كاهلنا الديون.
المصدر: الخليج