الذكاء الاصطناعي ومستقبل الوظائف في الشركات الكبرى

حدود الفاعلية: الذكاء الاصطناعي ومستقبل الوظائف في الشركات الكبرى

التاريخ والوقت : الأحد, 23 فبراير 2025

في ظل التحولات الاقتصادية والتكنولوجية المتسارعة، بات الذكاء الاصطناعي أكثر من مجرد أداة لتعزيز الكفاءة، بل تحول إلى عنصر جوهري في استراتيجيات الشركات الكبرى، حيث لم يعد السؤال المطروح هو ما إذا كانت هذه الشركات ستتبنى الذكاء الاصطناعي، بل إلى أي مدى سيعيد تشكيل سوق العمل، وبينما تشير التوقعات إلى أن هذه التكنولوجيا ستفتح آفاقًا جديدة للابتكار، فإن المخاوف تزداد حول تأثيرها على العمالة التقليدية، خاصة أن الشركات الكبرى باتت تنظر إلى الأتمتة كوسيلة لخفض التكاليف وتحقيق أعلى مستويات الإنتاجية، مما يجعلنا أمام معادلة معقدة تتداخل فيها فرص التقدم التكنولوجي مع مخاطر البطالة الهيكلية، ما يثير تساؤلات حول قدرة سوق العمل على مواكبة هذا التحول دون أن يؤدي ذلك إلى اضطرابات اجتماعية واقتصادية.

واقع التحول الرقمي وسوق العمل

لطالما مثلت التكنولوجيا ركيزة أساسية في تطور القطاعات الإنتاجية، إلا أن التحول الذي نشهده اليوم يختلف عن الموجات السابقة للثورات الصناعية، فالذكاء الاصطناعي لا يقتصر على تحسين العمليات التشغيلية، بل أصبح قادرًا على أداء مهام كانت تتطلب تدخلًا بشريًا، حيث تشير تقديرات المنتدى الاقتصادي العالمي إلى أن الذكاء الاصطناعي قد يؤدي إلى فقدان 85 مليون وظيفة بحلول عام 2025، لكنه سيخلق في المقابل 97 مليون وظيفة جديدة، ما يعني أن التحدي الحقيقي لا يكمن فقط في استبدال الوظائف، بل في قدرة سوق العمل على التكيف مع هذا التغيير السريع، خاصة أن المهارات المطلوبة للوظائف المستقبلية تختلف بشكل جذري عن المهارات التقليدية، وهو ما يضع العمالة الحالية أمام معضلة إعادة التأهيل السريع لمواكبة المتغيرات الجديدة.

وفي هذا السياق، بدأت شركات كبرى مثل أمازون وجوجل ومايكروسوفت في تسريع عملية الأتمتة، حيث أعلنت أمازون عن خطط لاستبدال آلاف الوظائف في مراكزها اللوجستية بأنظمة ذكاء اصطناعي، فيما تعمل جوجل على تطوير برمجيات قادرة على أداء مهام خدمة العملاء والإدارة المالية بكفاءة تضاهي أو تتجاوز الأداء البشري، الأمر الذي دفع بعض الحكومات إلى التحرك لمحاولة احتواء تأثيرات الأتمتة، حيث بدأت بعض الدول في فرض ضرائب على الشركات التي تعتمد على الأتمتة بدلاً من العمالة البشرية، بينما تسعى اقتصادات أخرى إلى تقديم حوافز للشركات التي تستثمر في تدريب وتأهيل موظفيها بدلاً من تسريحهم، إلا أن هذه الإجراءات لا تزال محدودة مقارنة بحجم التحولات الجارية، خاصة أن بعض الشركات ترى أن الاستثمار في الذكاء الاصطناعي على المدى الطويل أكثر استدامة وأقل تكلفة من إعادة تأهيل القوى العاملة البشرية.

الذكاء الاصطناعي والقطاعات الأكثر تأثرًا

فيما يخص القطاعات الأكثر تأثرًا، يبدو أن الوظائف التي تعتمد على المهام الروتينية أو المتكررة هي الأكثر عرضة للاستبدال، حيث تشير دراسات معهد ماكينزي إلى أن ما يقارب 50% من الأنشطة الوظيفية في بعض القطاعات يمكن أتمتتها باستخدام التقنيات الحالية، وتشمل هذه القطاعات الخدمات المالية، التصنيع، النقل، وحتى بعض الجوانب الإدارية في القطاع الصحي، حيث بدأت بعض المستشفيات في الاعتماد على أنظمة ذكاء اصطناعي لتشخيص الأمراض وتحليل الأشعة الطبية، ما يعني أن الأطباء قد لا يكونون في مأمن من تأثيرات الأتمتة على المدى الطويل.

على الجانب الآخر، هناك مجالات أقل عرضة لهذا التأثير، مثل المهن الإبداعية التي تتطلب قدرًا عاليًا من الابتكار، بالإضافة إلى الوظائف التي تعتمد على الذكاء العاطفي والتفاعل البشري مثل التعليم والاستشارات القانونية، إلا أن هذه القطاعات لا تمثل سوى نسبة صغيرة من إجمالي سوق العمل، ما يعني أن الأتمتة قد تؤدي إلى إعادة هيكلة كبرى في سوق العمل العالمي، مما يفرض تحديات اقتصادية واجتماعية غير مسبوقة.

الذكاء الاصطناعي والسياسات الاقتصادية

مع تصاعد الجدل حول تأثير الذكاء الاصطناعي على فرص العمل، بدأت بعض الحكومات في اتخاذ خطوات استباقية لحماية العمالة من فقدان وظائفهم، حيث تبنت بعض الدول سياسات تنظيمية مثل فرض ضرائب على الأتمتة، في حين بدأت دول أخرى في تطوير برامج تدريبية لمساعدة العمالة على الانتقال إلى وظائف قائمة على الذكاء الاصطناعي، كما بدأت بعض الشركات الكبرى في إطلاق مبادرات لإعادة تأهيل موظفيها، إلا أن هذه الجهود لا تزال غير كافية لمواكبة سرعة التحول الرقمي، خاصة أن بعض الوظائف المستحدثة تتطلب مستويات متقدمة من التعليم والتدريب، ما يعني أن شريحة كبيرة من القوى العاملة قد تجد نفسها خارج إطار المنافسة في سوق العمل الجديد.

وتشير بعض التقديرات إلى أن الاقتصادات النامية ستكون الأكثر تضررًا من هذه التحولات، حيث تعاني هذه الدول من نقص في البنية التحتية التعليمية والتدريبية اللازمة لمواكبة التغيرات التكنولوجية، مما قد يؤدي إلى تفاقم معدلات البطالة وعدم المساواة الاقتصادية، في حين أن الاقتصادات المتقدمة تمتلك موارد أكبر للتكيف مع هذه التحولات، حيث بدأت بعض الدول الأوروبية في تنفيذ استراتيجيات وطنية للتكيف مع الأتمتة من خلال تعزيز الاستثمار في التعليم التقني والبحث والتطوير، إلا أن هذا لا يعني أن هذه الدول ستكون بمنأى عن التأثيرات السلبية للأتمتة، خاصة أن بعض الشركات قد تلجأ إلى تسريح الموظفين كإجراء لخفض التكاليف حتى في ظل وجود بدائل تدريبية.

خيارات المستقبل

محصلة لما سبق، ورغم التوقعات بأن الذكاء الاصطناعي سيخلق فرصًا جديدة، إلا أن مستقبل سوق العمل قد يتراوح بين عدة سيناريوهات، الأول يتمثل في قدرة الحكومات والشركات الكبرى على إعادة تأهيل القوى العاملة بسرعة كافية لمواكبة المتغيرات الجديدة، بحيث يتم استيعاب التحولات التقنية دون اضطرابات كبرى، أما السيناريو الثاني فيكمن في عدم قدرة سوق العمل على التكيف مع سرعة التحول، مما قد يؤدي إلى ارتفاع معدلات البطالة في بعض القطاعات، وبالتالي خلق حالة من عدم الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي قد تدفع الحكومات إلى فرض قيود أكثر صرامة على الأتمتة للحد من تأثيرها السلبي على العمالة التقليدية.

وفي سياق آخر، قد تشهد المرحلة المقبلة تغيرًا في شكل التوظيف نفسه، حيث بدأت بعض الشركات في تبني نماذج عمل مرنة تعتمد على العمالة المستقلة (Freelancing) بدلاً من التوظيف الدائم، وهو ما قد يسهم في تقليل معدلات البطالة الرسمية، لكنه في المقابل قد يؤدي إلى تراجع مستويات الأمان الوظيفي، خاصة أن معظم هذه الوظائف لا توفر مزايا التأمين الصحي أو الاستقرار المالي طويل المدى، ما يعني أن القوى العاملة قد تجد نفسها أمام واقع جديد يتطلب إعادة النظر في مفهوم الاستقرار الوظيفي التقليدي.

الخلاصة

أمام هذه التحولات، يبدو أن مستقبل الوظائف في ظل الذكاء الاصطناعي لن يكون مجرد مسألة أتمتة بعض المهام، بل إعادة تشكيل كاملة لسوق العمل كما نعرفه اليوم، فبينما تقدم هذه التقنيات فرصًا غير مسبوقة لزيادة الإنتاجية وتحقيق نمو اقتصادي سريع، إلا أنها في الوقت نفسه تفرض تحديات كبيرة تتعلق بكيفية توزيع هذه الفوائد بشكل عادل، بحيث لا تتحول إلى عامل لتعميق الفجوات الاجتماعية والاقتصادية، ويبقى التساؤل الأهم: هل ستتمكن الحكومات والشركات الكبرى من تحقيق توازن بين الأتمتة والاستدامة الاجتماعية، أم أن الذكاء الاصطناعي سيؤدي إلى موجة جديدة من البطالة الهيكلية التي تعيد تعريف دور الإنسان في الاقتصاد الحديث؟

*إعداد وحدة الدراسات الاقتصادية

النشرة البريدية

سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!

تابعونا على

تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر