العنصريّة بوصفها حالة مَرَضيّة | مركز سمت للدراسات

العنصريّة بوصفها حالة مَرَضيّة

التاريخ والوقت : الأربعاء, 12 مارس 2025

عبد الإله بلقزيز

أيّاً كان تعريفُنا للعنصريّة في ماهيتها والمضمونِ: ظاهرةً اجتماعيّةً أو سياسيّةً أو ثقافيّةً أو أخلاقيّة، فإنّ الثّابت فيها الذي لا يتبدّد، في هذه الحالات جميعها أو يطرأ عليه تغييرٌ، هو نَواتُها المَرَضيّة التي منها تنشأ من حيث هي حالةٌ شاذّة وممجوجة عند القسم الأعظم من مجتمعات العالم. وأن تكون العنصريّةُ حالةً مَرضيّة، يرتّب ذلك على القائل بذلك حاجةً إلى بيان الوجه المَرَضيّ فيها وتحديدِ أسبابه وأعراضه أو ما يتولّد منه من نتائج. ومع أنّ تناوُلاً للموضوع أمرٌ متاح باللّجوء إلى مفاهيم علم النّفس المَرضيّ، على وجهٍ خاصّ، إلّا أنّ توسُّلَ مفاهيم علومٍ اجتماعيّة وإنسانيّة أخرى قمينٌ بأن يُظْهِرَنا على أبعادٍ عدّة في الظّاهرة وأن يوقفَنا على أمرِ ذلك الذي يبدو غيرَ طبيعيّ في الظّاهرة ويُغْري بالاستنتاج أنّها ظاهرة مَرَضيّة.

أَظْهَرُ تجسيدٍ للمَرَضيِّ في العنصريّة أنّ أفعالها تجاه الآخرين تقترن بمنزع إلى العدوان، وهذا يكون إمّا عدواناً لفظيّاً، معنويّاً، أو عدواناً ماديّاً. أكثرُ ما ينصرف إليه عدوانُ العنصريّة هو الحطّ من المكانة الاعتباريّة لِمن يقع عليه ذلك العدوان: الحطّ من شخصه، من ثقافته، من أصله («عِرقه»)، من دينه، من لونه… إلخ، وهو – على التّحقيق – حطٌّ من إنسانيّته جملةً. في مقابل هذا الحطّ الشّنيع من الآخرين يعتقد العنصريُّ أنّه – بما يمثّل من أبعادٍ كوّنتْه وكوّنت كَوْنَه الاجتماعيّ والثّقافيّ – يستكمل في شخصه شرائطَ الإنسانيِّ وينفرد بها: مجتمعاً وأمّةً وثقافةً وحضارة، لا يشاركه فيها أحد ولا يقاسمه إيّاها.

لذلك يسُوغ لنموذجه أن يكون عنده مَنْهَلاً للامتياح وقبل ذلك، أن يكون ميزاناً تُوزن به سماتُ الآخرين ومعطياتُهم/ ومعادنُهم. إنّ العنصريّ (ونموذجَه الثّقافيّ والمجتمعيّ) هو المعيار الذي تُقاس به درجاتُ قرب الآخرين أو بُعْدِهم من رتبة الإنسانيِّ التي يمثّلها… ويحتكرها أو يدّعي ملْكيّته الحصريّة لها. وهذه اليقينيّة العمياء لديه في حيازته خصالَ التّفرُّد والاستثنائيّة هي، بالذّات، التي تحوِّل نظرته إلى ما يقع خارج ذاته إلى عنصريّةٍ بغيضة مسكونة بالنّوازع المَرضيّة.

على أنّ الميْل الجارف إلى إيذاء الآخرين والحطِّ من مكانتهم الاعتباريّة ومن إنسانيّتهم يُضْمِر، في الوقت عينِه، حالاً من النّقص الحادّ في البعد الإنسانيّ لدى مَن يُبدي ذلك الميْل (العنصريّ). هكذا يتبدّى تشبُّعُه بأزعومة الإنسانيِّ الثّاوي فيه والفائضِ عنه وكأنّه اسمٌ حركيّ مستعار للفقر الحادّ إلى الإنسانيِّ لديه. بيانُ ذلك أنّ حيازةَ الإنسانيِّ لا يمكن أن تتأتّى من طريق الاعتداء عليه باسم الإنسانيّ. إنّ هذا أشبهُ ما يكون بمنطق اللاّمنطق أو ببرهانٍ بالخُلْف. النّقصُ الذي يعتري الكائنَ الإنسانيّ في البُعد الإنسانيّ ويهْبط بتفكيره وسلوكه إلى دَرْكٍ تحتيّ – يُنال فيه من اعتباره- هو، على التّحقيق، ذلك الذي يتمظهر في أفعالٍ ضائرة للآخرين وسالبة للرّوح الإنسانيّ فيهم. إنّه النّقصُ الذي يقدّم نفسه في صورةٍ مفارقةٍ صارخة يتلبّس فيها الفقرُ إلى الإنسانيّ بِ «فائضٍ» إنسانيٍّ مزعوم بحيث يتمظهر الأوّلُ منهما في هيئة الثّاني منتحلاً إيّاها!

للنّزعة العنصريّة بداياتٌ تقطعها على صعيد تهيئة الأفراد للتّنشئة على قيمها والتّشبُّع بها قبل أن تصير مسْلكاً رئيساً مدروجاً عليه في الرّؤى والأفعال. أوّلُ البدايات هذه نموُّ نزعةٍ من الاعتداد بالذّات والولَع بها والنّظر إليها بوصفها أعلى مكانةً ومقاماً، الأمر الذي يقود صاحب هذه النّزعة إلى الغرور بالنّفس والاستعلاء على الآخرين وتحقيرِهم والاستغراق – تفكيراً وسلوكاً – في أنانيّةٍ مفرطة يُلْغَى فيها وجودٌ آخر ما خلا وجود الذّات. في هذه النّرجسيّة الحادّة – وهي نزعةٌ مَرضيّة – تقوم جراثيمُ العنصريّة ومن بيئتها القِيَميَة والنّفسيّة يتغذّى السّلوكُ العنصريّ، بل ويتبرّر عند مَن يمارسه فيبدو له سلوكاً «طبيعيّاً» ومشروعاً لا شذوذ فيه ولا ضيْر! إنّ النّرجسيّة، بهذا المعنى، هي البنية التّحتيّة العميقة لِكلّ عنصريّة: أكانت نرجسيّةَ أفراد أو نرجسيّة جماعات، إذ هي ما يجعل الذّات مركز العالم عند صاحبها ممّا يأخذه إلى سلوك سبيل إنكار الآخرين أو النّظر إليهم بعين الانتقاص من إنسانيّتهم.

إذا كان هذا وجهَ النّرجسيّة الفرديّ، أو لدى الأفراد، فإنّ لها وجهاً جماعيّاً يتجسّد في مجتمعٍ أو جماعةٍ وطنيّة كما في ثقافةٍ مّا، والوجهُ الجماعيّ، الذي نعني، هو الذي يُعْرَف باسم التّمركُز على الذّات أو المركزيّة الذّاتيّة. تناولنا هذه الظّاهرة في مناسبات سابقة ولا نبغي تكرار ما قلناه في شأنها. لكنّ الذي ينبغي أن يقع التّشديد عليه أنّ نزعة التّمركز الذّاتيّ هذه عامّة، وتكاد أن تكون تعبيراً عن هويّة كلّ جماعةٍ إنسانيّة أو اجتماعيّة، وترجمةً لوعيها ذاتَها من حيث هي جماعةٌ متميّزة.

على أنّ الفارق كبيرٌ بين أن تحمل جماعةٌ مّا هذا الشّعور بالمركزيّة فيما مركزُها في العالم والمحيط ضعيف، ومواردُ القوّة لديها محدودة وشحيحة، وأن تحمله جماعةٌ قوّية ذاتُ نفوذٍ في العالم واستراتيجيّات. قد تُشْبع الأولى بشعورها ذاك نَهَماً نفسيّاً داخليّاً إلى الاعتزاز بذاتيّتها من دون أن تُضْمِر عداءً لغيرها أو تقابله بالإنكار، أمّا الثّانية فلا يكفيها الشّعورُ بذاتيّتها المتفوّقة، بل يقترن عندها بالرّغبة في التّعبير عنه من طريق الحطّ من غيرها والزّراية به.

المصدر: الخليج

النشرة البريدية

سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!

تابعونا على

تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر