سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تركي بن علي آل رشيد
لن أتحدث عن رائدَي العلاقات العامة، “إيفي لي” و”إدوارد برنيز”، اللذين وضعا الأسس النظرية والمهنية لهذا المجال في بدايات القرن العشرين، بل سيكون حديثي عن الرجل الثالث الذي جاء بعدهما، ليُسهم في تطوير المهنة والنهوض بها على أرض الواقع من خلال تجربة عصامية قائمة على الشغف والعمل والاجتهاد، وهو الأميركي “دان إيدلمان”، الذي أسس أكبر شركة علاقات عامة في العالم.
في شقة صغيرة بمدينة شيكاغو عام 1952، جلس رجل طموح أمام آلة كاتبة قديمة، حاملًا فكرة غيّرت وجه العلاقات العامة. لم يكن يعلم “دان إيدلمان” أن شركته الناشئة ستصبح ذات يوم عملاق العلاقات العامة الذي يعمل في أكثر من 60 مكتبًا حول العالم، ويُشكّل صوتًا رئيسيًا في الاتصالات العالمية في معظم مجالات الحياة. لقد كان سرُّ نجاحه يكمن في رؤيته الثاقبة بشأن تغيير عمل العلاقات العامة من مهنة ترتيب الأخبار إلى فن بناء الثقة بين المؤسسات والمجتمع.
وُلد دان إيدلمان (1920–2013) في نيويورك لأسرة مهاجرة، حيث تعلّم مبكرًا قيمة التواصل في المجتمع. تخرَّج في جامعة كولومبيا عام 1940، وبعدها بعام واحد حصل على الماجستير في الصحافة من الجامعة نفسها، وعمل مراسلًا صحفيًا بعدد من الصحف والقنوات التليفزيونية، ثم تفرَّغ لشغفه بفن الاتصال والعلاقات العامة.
في عام 1947، انتقل إيدلمان إلى شيكاغو مديرًا للعلاقات العامة في شركة “توني”، وفي عام 1952 أسَّسَ شركته “إيدلمان” بميزانية 500 دولار فقط، مُستلهِمًا فكرته الرئيسية، وهي أن العلاقات العامة ليست تلميع صورة الشركة ومنتجاتها وحسب، بل صناعة قصة تهم الناس. وسرعان ما نجحت فكرته لتجذبه العلامات الكبرى ليبتكر لها حملات ربطت المنتجات بقصص الحياة اليومية، ليحطم الصورة النمطية للدعاية التي كانت تبدو للناس أنها “كذبة مُغلفة”.
في خمسينيات القرن الماضي، لم يكن لدى الشركات أدوات للتواصل المباشر مع الجمهور. وهنا برزت عبقرية إيدلمان باختراع “الجولة الإعلامية”، حيث ينقل مسؤولو الشركات أخبارهم عبر زيارات ميدانية لوسائل الإعلام في مدن متعددة. هذه الاستراتيجية، التي بدأت بسيطة، أصبحت لاحقًا معيارًا عالميًا في الصناعة الاتصالية.
وساعدت فكرة دان إيدلمان الملهمة الشركات على الوصول لعملائها والتأثير عليهم. فقد ساعدت “إيدلمان” شركات وعلامات تجارية كبرى مثل: هاينز، وستاربكس، ومايكروسوفت، وسامسونج على مدار عقود من الزمن.
آمن “دان” أن نجاح أي مؤسسة يرتكز على ثقة الجمهور، وهو ما جسَّده عام 2001 عبر إطلاق “مقياس الثقة ..”Trust Barometer هذا التقرير السنوي، الذي يعتمد على استطلاعات رأي تشمل آلاف الأفراد ويُغطي 28 دولة، أصبح مرجعًا عالميًا لفهم تحوّلات الرأي العام تجاه الحكومات والشركات، وقد أصدرت الشركة تقريرها لعام 2025، الذي أكد أن السعودية هي الأعلى ثقة عالميًّا بنسبة 87% في قطاع الحكومة، متصدرة العديد من الدول المتقدمة، وهو ما يجعلها أكثر الحكومات موثوقية في العالم، بالنظر إلى تعزيز القطاعات غير النفطية وتوفير فرص وظيفية جديدة، وصولًا إلى جذب الاستثمارات الأجنبية وتنويع مصادر الدخل.
حرص “دان” على بناء إمبراطورية عائلية، فانضم ابنه ريتشارد إلى الشركة عام 1986، ليتولى لاحقًا منصب الرئيس التنفيذي عام 1996. تحت قيادة ريتشارد، توسعت إيدلمان، لكنها حافظت على فلسفة مؤسسها، وهي أن وكالة العلاقات العامة لا تبيع المنتج، بل القيمة التي يضيفها.
في تسعينيات القرن الماضي، وسّعت الشركة نطاق حلولها لعملائها من خلال خدمات متطورة، بما في ذلك شركة عالمية متعددة التخصصات في مجال الأبحاث والتحليلات واستشارات البيانات Edelman Data & Intelligence، وقسم للخدمات التفاعلية Edelman Digital. كما استخدمت الشركة خبرتها في مجال المواطنة للتوسع في مجال المسؤولية الاجتماعية للشركات، ووضع العلاقات العامة في صميم عالم التسويق والاتصالات المؤسسية.
وعلى مدى أكثر من نصف قرن، قاد دان وريتشارد إيدلمان، الأب والابن، شركة إيدلمان لتصبح أكبر شركة علاقات عامة في العالم. كانا يؤمنان إيمانًا راسخًا بأن الأخلاق والاحترام والشغف والابتكار والأفكار الرائدة هي عوامل النجاح.
وعلى الرغم من وفاة “دان” عام 2013، فإن شركته استمرت في قيادة التحولات في العلاقات العامة؛ لتثبت أن إرث “دان” ليس مجرد تاريخ، بل منهجية قابلة للتطوّر. وتحتفظ الشركة بموقعها كأكبر وكالة علاقات عامة مستقلة في العالم (بإيرادات تجاوزت مليار دولار عام 2023). ورغم أن الشركة تواجه تحديات الذكاء الاصطناعي وانتشار الشائعات، فإن إرث “دان” يحثُّ العاملين في العلاقات العامة على التركيز على الحقائق والقصة الإنسانية قبل إدارة الأخبار.
حصل “دان” على عشرات الجوائز، منها جائزة مشاهير العلاقات العامة (PR Hall of Fame)، لكن تكريمه الأكبر يبقى استمرار اسمه كرمزٍ للابتكار في العلاقات العامة. ففي عصر تتهاوى فيه الثقة بالمؤسسات، وتتحول الأخبار إلى سلعة، يذكرنا إرث “دان” أن مهمة العلاقات العامة الحقيقية ليست تجميل سمعة الشركات، بل بناء جسر بين مصالح الشركات واحتياجات المجتمع.
وتمثِّل حياة دان إيدلمان مثالًا على الفكر الاتصالي الريادي الذي أحدث تحولًا جوهريًا في مجال العلاقات العامة. فقد ترك إرثًا يمتد عبر الأجيال، حيث يستمر تأثيره في تشكيل مستقبل العلاقات العامة، مما يجعله شخصية استثنائية في هذا التخصص.
أستاذ الإعلام والاتصال المساعد*
TurkiAlrasheed1@
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر