سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
أ. د. حمدي عبد الرحمن حسن
إننا نعيش اليوم في عالم قد يصبح فيه الاستعمار الرقمي تهديدًا كبيرًا وبعيد المدى للجنوب العالمي كما كان الاستعمار الكلاسيكي في القرون السابقة. وتتجسد بعض ملامح النظام العالمي الرقمي الجديد في زيادة حدة أوضاع عدم المساواة، وتغول أيدي الشركات العاملة في المجال الرقمي والتكنولوجي، والتقنيات الشرطية والعسكرية المتطورة.
قد تبدو هذه الظاهرة جديدة بالنسبة للبعض، ولكن على مدار العقود الماضية، أصبحت مترسخة في الوضع الراهن العالمي. وبدون حركة قوية معادية ومقاومة للسلطة الاستعمارية الجديدة، سيزداد الوضع سوءًا. ومن الملاحظ أن العديد من التحليلات النقدية تركز على الهيمنة المتزايدة لشركات التكنولوجيا الرقمية داخل أسواقها المحلية، في الوقت الذي يتم فيه تجاهل تأثيرها العالمي، لا سيما من قبل المفكرين المؤثرين في الإمبراطورية الرقمية الأمريكية. ومن خلال الفحص والتدقيق للبيانات والأرقام ذات الدلالة، يصبح من الواضح أن الشركات الكبرى لا تعمل على نطاق عالمي فحسب، بل تُظهر أيضًا خصائص استعمارية، مع وجود الولايات المتحدة على رأس القيادة والسيطرة. ويُشار إلى هذه الظاهرة باسم “الاستعمار الرقمي”.
إفريقيا بين استعمارين
لعلنا نتذكر أن إفريقيا في القرن التاسع عشر، واجهت عدوانًا إمبرياليًا من خلال دبلوماسية الزوارق الحربية، وغزو الأراضي، والاستغلال الاقتصادي، واستخراج الموارد كرهًا من قبل القوى الأوروبية الاستعمارية. بدأ هذا الصعود الاستعماري بعد نهاية تجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي وتم إضفاء الطابع الرسمي عليه في مؤتمر برلين الاستعماري (1884 -1885)، حيث سرعان ما اجتمعت القوى الاستعمارية لوضع خطة من شأنها أن تُوقف وتُعطل مسيرة التنمية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لأفريقيا أمدًا طويلًا. قامت القوى الأوروبية، تحت ستار أيديولوجية التفوق الأبيض، والمشاعر الراسخة المعادية للسود، واستخدام القوة الغاشمة، بتقسيم القارة فيما أصبح يعرف باسم “التكالب على إفريقيا”. كانت المعتقدات المتأصلة في المخيال الأوروبي العنصري مفادها أن الشعوب الأفريقية متخلفة وغير متطورة وهو ما يطرح مقولة عبء الرجل الأبيض. وبحلول عام 1900، استحوذت الدول الأوروبية بما في ذلك بريطانيا العظمى وفرنسا وألمانيا وبلجيكا والبرتغال وإيطاليا وإسبانيا على ما يقرب من 90% من الأراضي الأفريقية. ارتبط هذا التكالب الاستعماري باعتقاد قوي بأن المستقبل الاقتصادي، وبالتالي السياسي، لأي بلد صناعي يتوقف على السيطرة الحصرية على أسواقه ومواده الخام. لذلك، قامت القوى الاستعمارية بنهب أراضي إفريقيا، واستخرجت لمصلحتها الخاصة المواد الخام مثل النحاس والقطن والمطاط والشاي والذهب والماس والقصدير.
وعلى أية حال اعتمد الاستعمار بهذا المفهوم على الملكية والسيطرة على الأرض والبنية التحتية، واستخراج العمل والمعرفة والسلع، وممارسة سلطة الدولة. ثم تطورت هذه العملية على مدى قرون، مع إضافة تقنيات جديدة إلى أدوات الاستعمار الكلاسيكي. وعلى سبيل المثال بحلول أواخر القرن التاسع عشر، سهلت الكابلات البحرية الاتصالات البرقية مصالح الإمبراطورية البريطانية. كما تم استغلال التطورات الجديدة في تسجيل المعلومات وأرشفتها وتنظيمها من قبل المخابرات العسكرية الأمريكية التي استخدمت لأول مرة في غزو الفلبين. اليوم، لدينا ما يشبه “الأوردة الرقمية” المفتوحة التي تعبر المحيطات، وتؤدي إلى إنشاء نظام بيئي تقني مملوك ومسيطر عليه من قبل حفنة من الشركات التي يقع معظمها في الولايات المتحدة. بعض كابلات الألياف الضوئية العابرة للمحيطات مزودة بخيوط مملوكة أو مؤجرة لشركات مثل جوجل أو فيسبوك لتعزيز استخراج البيانات واحتكارها. إن ما يشبه الآلات الثقيلة اليوم هي مزارع الخوادم السحابية التي تهيمن عليها أمازون ومايكروسوفت والتي تستخدم لتخزين وتجميع ومعالجة البيانات الضخمة، وتنتشر مثل القواعد العسكرية لإمبراطورية الولايات المتحدة. المهندسون هم جيوش الشركات من نخبة المبرمجين برواتب سخية تصل إلى 250 ألف دولار أو أكثر. أما العمال الذين يتم استغلالهم فهم الأشخاص الملونون الذين يستخرجون المعادن في الكونغو الديموقراطية وأمريكا اللاتينية، وجيوش العمالة الرخيصة التي تحلل بيانات الذكاء الاصطناعي في الصين وأفريقيا. أما المنصات ومراكز التجسس (مثل وكالة الأمن القومي) فهي بمثابة أجهزة الرقابة والتنصت، كما تعد البيانات بمثابة المادة الخام المعالجة للخدمات القائمة على الذكاء الاصطناعي. ولعل ذلك كله يطرح التساؤلات حول ماهية وطبيعة هذا النوع الجديد من الاستعمار!
ما هو الاستعمار الرقمي؟
يشير الاستعمار الرقمي إلى ظاهرة معاصرة، حيث تستغل شركات التكنولوجيا الغربية القوية بيانات الأفراد وتتحكم فيها، لا سيما في جنوب الكرة الأرضية، من خلال البنية التحتية والتكنولوجيا التي توفرها. ويرسم هذا المفهوم أوجه تشابه مع الاستعمار التاريخي بمعناه الكلاسيكي الذي بيناه، حيث استخرجت الإمبراطوريات الموارد الطبيعية واستغلت العمالة المحلية لتحقيق مكاسب اقتصادية خاصة بها. وفي سياق الاستعمار الرقمي، تنشئ شركات التكنولوجيا الغربية شبكات ومنصات اتصال، مثل وسائل التواصل الاجتماعي، وتستفيد منها في جمع كميات هائلة من بيانات المستخدم. ثم يتم استخدام هذه البيانات لأغراض مختلفة، بما في ذلك الإعلانات المستهدفة والتحليلات التنبؤية.
ويمكن تحديد الجهات الفاعلة الرئيسية المشاركة في الاستعمار الرقمي في ما يلي:
1- شركات التكنولوجيا الغربية: تقوم هذه الشركات بتطوير وتوفير التكنولوجيا والبنية التحتية التي تمكن من استخراج البيانات واستهداف الإعلانات وإذاعتها.
2- شركات الإعلان والاستشارات: تستخدم هذه الشركات التكنولوجيا التي توفرها شركات التكنولوجيا الغربية لاستهداف مجموعات محددة بإعلانات ورسائل مخصصة للغاية، بهدف زيادة الأرباح.
3- الشركات والأحزاب والمنظمات المحلية: الذين يدفعون لشركات الإعلانات والاستشارات للمساعدة في تطوير أجنداتهم الخاصة داخل بلدانهم، باستخدام البنية التحتية والبيانات التي تجمعها شركات التكنولوجيا الغربية.
4- المواطنون: يعمل الأفراد عن قصد أو عن غير قصد كمصادر بيانات لشركات التكنولوجيا الغربية ويصبحون مجموعات مستهدفة للإعلانات المخصصة والأجندات التي تفرضها الشركات المحلية.
مظاهر الاستعمار الرقمي
يتجلى الاستعمار الرقمي بطرق مختلفة، لا سيما في التحكم في المعلومات والتلاعب بها. في سياق الاستعمار الرقمي، تقوم القوى الأجنبية، بقيادة الولايات المتحدة في المقام الأول، بإنشاء بنية تحتية في الجنوب العالمي تخدم مصالحها الخاصة. وقد تم تصميم هذه البنية التحتية لضمان هيمنة الشركات الكبرى على الوظائف الحيوية في النظام البيئي التكنولوجي. كما تستفيد هذه الشركات من حقوق الملكية الفكرية، والوصول إلى البنية التحتية، وجمع كميات هائلة من البيانات. كما أنهم يمارسون السيطرة على تدفق المعلومات والأنشطة الاجتماعية ومختلف الوظائف السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية من خلال تقنياتهم. ويسلط هذا الجزء الضوء على المخاوف المتعلقة بالاختلالات في موازين القوى، واستغلال البيانات، وتأثير شركات التكنولوجيا الغربية في تشكيل المشهد الرقمي وهياكل الحوكمة في إفريقيا ومناطق أخرى من الجنوب العالمي. ويمكن الإشارة إلى أبرز تجليات الاستعمار الرقمي فيما يلي:
1- التحكم والسيطرة في المعلومات
في ظل الاستعمار الرقمي، تقوم القوى الأجنبية، بقيادة الولايات المتحدة في الغالب، بإنشاء بنية تحتية في الجنوب العالمي تخدم مصالحها الخاصة. وقد تم تصميم هذه البنية التحتية لضمان هيمنة الشركات الكبرى على الوظائف الحيوية في النظام البيئي التكنولوجي. ويسمح لهذه الشركات بتحصيل الأرباح من خلال حقوق الملكية الفكرية، والوصول إلى البنية التحتية، والمراقبة من خلال جمع البيانات الضخمة. علاوة على ذلك، يمارسون السيطرة على تدفق المعلومات والأنشطة الاجتماعية ومختلف الوظائف السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية بواسطة تكنولوجياتهم. يعني ذلك أن مفهوم الاستعمار الرقمي يسلط الضوء على المخاوف المتعلقة باختلال موازين القوى، واستغلال البيانات، وتأثير شركات التكنولوجيا الغربية في تشكيل المشهد الرقمي وهياكل الحوكمة في أفريقيا وغيرها من مناطق الجنوب العالمي.
بالنظر إلى البرامج، يمكننا أن نرى عملية تمت فيها خصخصة الكود الذي كان يتم مشاركته بحرية وعلى نطاق واسع من قبل المبرمجين بشكل متزايد وخاضع لحقوق النشر. في السبعينيات والثمانينيات، بدأ الكونجرس الأمريكي في تعزيز حقوق التأليف والنشر الخاصة بالبرمجيات. وقد كان هناك اتجاه مضاد لهذا في شكل تراخيص “البرمجيات الحرة والمفتوحة المصدر” (FOSS) التي منحت المستخدمين الحق في استخدام ودراسة وتعديل ومشاركة البرامج. ولا يخفى أن لهذه التراخيص فوائد جمة للبلدان في جنوب الكرة الأرضية لأنها أوجدت “مشاعًا رقميًا”، خالٍ من سيطرة الشركات والدافع للربح. ومع ذلك، مع انتشار حركة البرمجيات الحرة صوب الجنوب، ظهر رد فعل عنيف منقبل الشركات التكنولوجية. على سبيل المثال احتقرت مايكروسوفت بيرو عندما حاولت حكومتها الابتعاد عن البرمجيات المملوكة لشركة مايكروسوفت. كما حاولت منع الحكومات الأفريقية من استخدام نظام البرمجيات الحرة والمفتوحة المصدر في الوزارات الحكومية والمدارس.
2- السيطرة والتحكم في مجال التعليم
ولعل من أبرز مظاهر الاستعمار الرقمي في مجال التعليم في إفريقيا ما نلاحظه من التأثير والسيطرة التي تمارسها شركات التكنولوجيا الكبرى، مثل مايكروسوفت وجوجل وبيرسون وأي بي إم وغيرها، في الأنظمة التعليمية عبر القارة. تستخدم هذه الشركات استراتيجيات مختلفة لتوسيع انتشارها وهيمنتها في قطاع التعليم، وغالبًا على حساب الاستقلالية المحلية والاحتياجات الخاصة. ففي جنوب إفريقيا، تتمتع مايكروسوفت، على سبيل المثال، بحضور قوي، حيث تستخدم المدربين لتوجيه المعلمين حول استخدام برامج مايكروسوفت في المدارس. كما أنها توفر الأجهزة اللوحية والبرامج التي تعمل بنظام وندوز للجامعات، وإنشاء شراكات للترويج لمنتجاتها. بالإضافة إلى ذلك، دخلت مايكروسوفت في شراكة مع شركة فوداكوم للهواتف المحمولة لتقديم التعليم الرقمي للدارسين في جنوب إفريقيا. هذا الشكل من الاستعمار الرقمي ليس فريدًا من نوعه في جنوب إفريقيا ولكنه يحدث في جميع أنحاء جنوب الكرة الأرضية. لوحظت أنماط مماثلة في البرازيل، حيث تقدم شركات التكنولوجيا الكبيرة تقنيات للطلاب المحرومين ولكنها تستخرج البيانات دون مراعاة الخصوصيات المحلية.
وعليه توفر المؤسسات التعليمية أرضًا خصبة لشركات التكنولوجيا الكبرى لتوسيع سيطرتها على الأسواق الرقمية. غالبًا ما يعتمد الأفراد المحرومون في الجنوب العالمي على الحكومات أو الشركات لتزويدهم بالأجهزة، مما يجعلهم يعتمدون على الآخرين لتحديد البرامج التي يستخدمونها. من خلال التحميل المسبق لبرامجها على الأجهزة الموزعة على الأطفال، الذين قد يكون لديهم وصول محدود إلى التكنولوجيا بخلاف الهواتف المميزة، يمكن لشركات التكنولوجيا الكبرى الحصول على حصة في السوق وربما التأثير على تفضيلات مطوري البرامج في المستقبل الذين اعتادوا على برامجهم وواجهاتهم. وباختصار، ينطوي الاستعمار الرقمي في التعليم في إفريقيا على هيمنة شركات التكنولوجيا الغربية، واستخراجها للبيانات، وفرض برامجها ومنصاتها على الأنظمة التعليمية، مما قد يقوض الاستقلال الذاتي المحلي والاحتياجات الخاصة.
3- اعتبار أفريقيا حقل تجارب
أحد المظاهر الأخرى تتمثل في استخدام الأفارقة كفئران تجارب. لقرون طويلة، اختبرت القوى الإمبريالية تقنيات للشرطة والسيطرة على مواطنيها على السكان الأجانب. ولعلنا نتذكر ما قام به السير فرانسيس جالتون، العالم البريطاني وابن عم تشارلز داروين من مساهمات كبيرة في مجال البصمات، والتي كان لها تأثير ملحوظ عند تطبيقها في الهند وجنوب إفريقيا خلال الحقبة الاستعمارية. لقد سهلت عملية أخذ البصمات في الهند وجنوب إفريقيا إنشاء أنظمة التحكم والمراقبة وإدارة السكان خلال الفترة الاستعمارية. ومع ذلك، من المهم الاعتراف بأن تطبيق البصمات في السياق الاستعماري غالبًا ما يخدم مصالح القوى الاستعمارية ويسهم في الممارسات التمييزية وأنظمة السيطرة المتأصلة في الاستعمار. وعلى كل حال تشير مشاريع المراقبة عالية التقنية لشركة مايكروسوفت وشركائها إلى أن الأفارقة يواصلون العمل كمختبر للتجارب لصالح الغرب.
الخاتمة
في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، تبنت دول الجنوب العالمي البرمجيات الحرة والمشاعات العالمية كوسيلة لمقاومة الاستعمار الرقمي لبعض الوقت، ومع ذلك خفت الاهتمام بالعديد من هذه المبادرات منذ ذلك الحين. وقد ظهرت في السنوات القليلة الماضية، حركات جديدة ضد الاستعمار الرقمي. إن الأزمة البيئية التي خلقتها الرأسمالية بشكل سريع تهدد بتدمير الحياة على سطح الأرض، وهو ما يستدعي أن تتقاطع حلول الاقتصاد الرقمي مع العدالة البيئية والنضالات الأوسع من أجل المساواة. ومن أجل القضاء على الاستعمار الرقمي، نحتاج إلى إطار مفاهيمي مختلف يتحدى الأسباب الجذرية والجهات الفاعلة الرئيسية، وفي المقابل يرتبط بالحركات الشعبية الراغبة في مواجهة الرأسمالية والاستبداد، والإمبراطورية الأمريكية، وداعميها من المفكرين والكتاب.
وبالنسبة لمقاومة الاستعمار الرقمي في إفريقيا، يصبح من الضروري إعطاء الأولوية للاستقلال الوطني، وحماية سيادة البيانات، وتطوير الحلول التكنولوجية المحلية. ويمكن تحقيق ذلك من خلال استراتيجيات متعددة، بما في ذلك دعم الابتكار التكنولوجي المحلي، وتعزيز محو الأمية الرقمية والتمكين بين السكان الأفارقة، والدعوة إلى قوانين أقوى لحماية البيانات، وتشجيع التعاون بين شركات التكنولوجيا والحكومات الأفريقية لإنشاء بنية تحتية رقمية تخدم الاحتياجات المحددة للأفارقة. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يؤدي تعزيز تقنيات المصادر المفتوحة وتعزيز الشراكات بين البلدان الأفريقية إلى تعزيز الاعتماد على الذات وتقليل الاعتماد على عمالقة التكنولوجيا الأجانب. ومن خلال استعادة السيطرة على التقنيات والبيانات الرقمية، يمكن لأفريقيا تأكيد سيادتها وتشكيل مستقبلها الرقمي.
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر