سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
أنس بن فيصل الحجي
أدرك تماماً أنه سيكون هناك عدد كبير من التعليقات العاطفية على هذه المقالة، وأن كثيراً من الردود ستكون على العنوان، من دون أن تتم قراءة المقالة، والبعض سيحاول الصيد في الماء العكر.
لهذا فإن أي قراءة نقدية للمقاطعة النفطية لا تعني بالضرورة نقد تلك السياسات أو التقليل من أهمية تلك القرارات وقتها، وإنما تعني بكل بساطة أن 50 عاماً كافية لتقييم آثار تلك القرارات، واستخلاص الدروس والعبر منها، إذ إن تقييم اليوم ناتج مما تعلمناه في الأعوام الماضية، وليس بناء على المعلومات المتوافرة وقت إعلان المقاطعة.
ببساطة النفط ليس سلاحاً، والدول العربية النفطية ما زالت تدفع ثمن المقاطعة النفطية حتى اليوم، ولم تحقق المقاطعة هدفها المعلن، وأكبر دليل على ذلك ما نراه من أحداث اليوم، إسرائيل توسعت، والدول الغربية التي تمت مقاطعتها في 1973، مازالت تدعم تل أبيب بقوة، ومنذ ذلك الوقت طوروا سياسات عدة لإيجاد بدائل عن النفط، وما المعاناة الاقتصادية الكبيرة التي عانى منها الوطن العربي في الثمانينيات من القرن الماضي إلا إحدى النتائج السلبية لتلك المقاطعة.
لقد أثبتت كل الدراسات التي ركزت على آثار العقوبات الاقتصادية خلال الـ 120 عاماً الماضية، أن العقوبات كلها فشلت ولم تحقق أهدافها، وهذا يشمل كل العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة والدول الأوروبية، ولكن سببت كثيراً من الآلام لشعوب الطرفين، الدول المقاطَعَة والدولة المقاطِعة، وأمامنا الآن ثلاثة أمثلة صارخة على فشل المقاطعة والعقوبات الاقتصادية في تحقيق أهدافها، على رغم الآلام والمشكلات الناتجة منها وهي إيران وروسيا وكوبا.
النظام الكوبي ما زال موجوداً على رغم 70 سنة من المقاطعة، إذاً علينا أن نفرق هنا بين أمرين، هدف المقاطعة الذي يتمثل في إجبار الخصم على تغير موقفه، والمشكلات التي تسببها المقاطعة للطرفين، لأن تألم الخصم من دون تغيير موقفه لا يعني نجاح المقاطعة.
وعلى رغم أن النفط الخليجي والمنتجات النفطية لا تباع لإسرائيل، ولكنها تصلها من وقت لآخر، ففي يوليو (تموز) من العام الماضي، وصلت شحنة من الديزل الحلو (قليل الكبريت) إلى إسرائيل، وهذا الديزل تم تكريره في مصفاة خليجية، فكيف وصل إليها؟
كل ماحصل أنه تم بيع شحنة لشركة فرنسية، فقامت الناقلة بإفراغ نحو ثلاثة أرباع الحمولة في ميناء فرنسي، ثم خرجت إلى عرض البحر، وهناك نقل الديزل منها إلى سفينة أصغر، ثم نقلت هذه السفينة الديزل إلى إسرائيل.
الفكرة هنا أنه على رغم عدم البيع المباشر، وعلى رغم تحذير العملاء من إعادة البيع (هناك شروط في عقود النفط الخام بعدم إعادة البيع، ولكن يبدو أن المنتجات النفطية تختلف)، وصل النفط إلى دول يجب أن لايصلها.
الأمر نفسه ينطبق على النفط الروسي، فدول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة فرضت حظراً على نفط موسكو، ولكنه يصلها على كل الحالات، بأشكال مختلفة، وتسهم دول عدة في عملية “غسل” النفط الروسي منها دول تصدر النفط والمنتجات النفطية بأكبر من طاقتها الإنتاجية مثل ماليزيا وتركيا.
في السنوات الماضية أغلب النفط من شمال العراق، الذي يصدر منها إلى تركيا عبر أنبوب (مغلق الآن)، إلى ميناء جيهان التركي، يذهب إلى إسرائيل، وفي الأوراق الرسمية الكردستانية العراقية، يظهر أن النفط مصدر إلى تركيا، لكن في الأوراق الإسرائيلية، يظهر أن تل أبيب تستورده من أنقرة، وكلنا يعرف أن تركيا ليس فيها نفط للتصدير.
الواقع أن أكثر من سبعة ملايين برميل من النفط يتم تداولها يومياً في السوق السوداء، وهذا النفط يذهب إلى من يدفع، إذاً مقاطعة بلد معين لا يعني عدم وصول النفط إليها، النفط سيصل بطريقة أو بأخرى، وبهذا لن تحقق أي مقاطعة أهدافها.
الآثار السلبية للمقاطعة في عام 1973
قد يرد البعض على ما سبق بالقول، إن المفروض هو وقف الإنتاج والتصدير كلياً أو جزئياً بحيث يتم فعلاً معاقبة أعداء الأمة، وليس منع النفط من الوصول إلى دولة معينة، والمشكلة هنا أن هذا التخفيض وارتفاع الأسعار يؤذي الأصدقاء قبل الأعداء، بخاصة الأصدقاء الذين ليس لديهم القدرة على الشراء بأسعار مرتفعة، وهنا يقول البعض “يمكن تقديم المساعدات لهذه الدول”، وهنا تظهر عدم منطقية العملية كلها، إذا كان البلد لا يصدر، فليس لديه المال من عائدات النفط، فكيف يقدم المساعدات؟
الحقيقة أن العرب مازالوا يدفعون ثمن المقاطعة النفطية حتى اليوم على رغم مرور 50 سنة، لدرجة أنه في الأسبوع الأخير، بدأ الساسة وبعض المتخصصين والإعلاميين وعدد كبيرمن الناس في وسائل الاتصال الاجتماعي يتساءلون عما إذا كانت الدول العربية ستسخدم النفط كسلاح للضغط على الدول الغربية من أجل غزة، كما صدرت مقالة طويلة في جريدة “وول ستريت جورنال” لخبيرين يناقشان الموضوع، وعلينا أن نتذكر أن أسوأ الأفلام المسيئة للعرب أنتجتها “هوليوود” بعد المقاطعة النفطية، والتشويه الإعلامي أصبح عرفاً لدى الإعلام الغربي منذ المقاطعة النفطية وحتى الآن، وهذا التشويه يشمل كل العرب، وليس دول الخليج فقط.
أهداف المقاطعة النفطية وقتها، التي تتمثل في العودة إلى حدود 1967 ووقف الدعم الغربي، لم تتحقق، وتم “تلبيس” كل المشكلات التي كانت تعاني منها الولايات المتحدة قبل المقاطعة للعرب، وأكرر هنا ما قلته سابقاً عند تقييم المقاطعة بأن علينا أن نفرق بين تحقيق الأهداف وبين إزعاج وإيلام الطرف الآخر.
وفقاً للرواية الأميركية فالمقاطعة النفطية العربية هي التي سببت الكساد والتضخم والبطالة، وحتى يومنا هذا، كلما ضرب الكوز بالجرة يظهر الإعلام الأميركي صور طوابير البنزين، ويقولون إن سببها المقاطعة العربية.
وبلع كثير من العرب الطعم الأميركي، ظناً أن كل ما حصل كان بسبب المقاطعة، وأكبر أثر تركه الإعلام الأميركي في الإعلام والمثقفين العرب هو تعبير “الصدمة النفطية”، “صدمة” لمن؟ لهذا فالأفضل استخدام تعبير “الأزمة النفطية العالمية”، أما ما جاء بعد تلك الفترة، بغض النظر عن الأسباب، فهو “طفرة نفطية”، باختصار، من يستخدم تعبير “صدمة نفطية” يخدم العدو من دون أن يدرك.
الحقيقة أن المقاطعة النفطية أنهت أزمة الطاقة الأميركية، لأنها بدأت في نهاية الستينيات، وتفاقمت في عامي 1972 و 1973، والأدلة على وجود الأزمة قبل المقاطعة كثيرة، والتصريحات الرسمية والخطابات الرئاسية، وعناوين الصحف والمجلات كلها تشير إلى وجود أزمة طاقة وأزمة اقتصادية قبل المقاطعة، كما أن كثيراً من الصور التي تنشر عن طوابير البنزين هي من يونيو (حزيران)، والمقاطعة حصلت في أكتوبر، وسيتم سردها بالكامل مع المراجع في مساحة على منصة “إكس” اليوم، الثلاثاء الساعة العاشرة مساء بتوقيت مكة المكرمة في برنامج “أنسيات الطاقة” التابع لمنصة “الطاقة”.
أزمة الطاقة شملت كل مصادر الطاقة الأميركية، والدول العربية لاتصدر إلى الولايات المتحدة إلا النفط الخام، فما سبب نقص إمدادات الغاز والفحم والكهرباء؟ الدول العربية تصدر النفط الخام، فلماذا العجز في إمدادات الديزل والبنزين، وقبل المقاطعة؟
الاقتصاد الأميركي عانى معاناة شديدة في عهد الرئيس ريتشارد نيكسون، بسبب انخفاض القدرة التنافسية للصناعات الأميركية مع بروز اليابان وأوروبا، ونتيجة تعويم الدولار وفصله عن الذهب، وكان نيكسون يهدف إلى أن يربح البيت الأبيض لفترة ثانية في الانتخابات المقبلة. فلجأ الرئيس الجمهوري المحافظ إلى تبني نظام شيوعي صرف: فرض سقف للأسعار على أمور كثيرة، وهذا شمل أسعار النفط والغاز والمنتجات النفطية.
تحديد الأسعار هو الذي سبب طوابير البنزين وليس المقاطعة، فلماذا تبيع الشركات البنزين بسعر منخفض بينما تستطيع تصديره وبيعه بالسعر العالمي؟ لماذا تقوم المصافي بتكرير البنزين إذا كانت ستخسر على كل غالون تبيعه؟ لماذا تقوم المصافي باستيراد النفط لتكريره إذا كانت تستطيع أن تبيع النفط الخام بسعر أعلى في الأسواق العالمية؟
التضخم والبطالة وتباطؤ النمو الاقتصادي كانت موجودة قبل المقاطعة، والعجز الضخم في الميزان التجاري كان موجوداً قبل المقاطعة، ولكن بعدها تحسن الميزان التجاري الأميركي على حساب الأوروبي والياباني.
الحديث في موضوع المقاطعة طويل وذو شجون، ولا يمكن سرده في مقالة صحافية، ولكن أذكر خمسة أمور، أولها أن دول “أوبك” رفعت الأسعار المعلنة قبل المقاطعة النفطية بشكل كبير، وهذا أسهم في رفع أسعار النفط، وهذا كان بضغوط من شاه إيران، الذي لم يشارك في المقاطعة، والأمر الثاني أن المقطاعة استمرت فترة قصيرة، ولكن حتى بعد انتهائها رسمياً في 1974، لم تنخفض أسعار النفط، لماذا؟
ثالث الأمور هو أن الدول الثورجية التي دفعت بدول الخليج إلى المقاطعة لم تشترك فيها، منها العراق وليبيا، بل إن كلا البلدين زادا إنتاجهما وساعدا الولايات المتحدة بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، في الوقت الذي خفضت فيه دول الخليج الإنتاج.
رفض الكونغرس الأميركي الموافقة على أنبوب نفط ألاسكا مرات عدة، هو رابع الأمور لأنه بمجرد إعلان المقاطعة، تمت الموافقة عليه، وكما أن شركات النفط لم تتمكن من استخراجه من بحر الشمال بسبب ارتفاع التكاليف، ولكن مع ارتفاع الأسعار، قامت باستثمارات كبيرة نتج من هذا زيادة الإنتاج العالمي مع بداية الثمانينيات بأكثر من خمسة ملايين برميل يومياً، أسهمت في انهيار الأسواق ومعاناة دول الخليج في منتصف الثمانينيات.
ولنتذكر أن هذه الزيادات كانت في الدول الغربية، وبالقرب من الأسواق الرئيسة للنفط، كما تم تطوير منابع النفط في أكثر من 15 دولة لم تكن نفطية قبل المقاطعة، وما ساعد ثورة الصخري وتحول الولايات المتحدة من أكبر مستورد للنفط في العالم إلى أكبر منتج للنفط في العالم هو ارتفاع أسعار النفط في عامي 2007 و2008، ثم ارتفاعها مرة أخرى بين عامي 2012 و2014، وهذا أسهم في انهيار أسواق النفط في 2015.
ونتذكر مع الأمر الخامس أن أسعار النفط انهارت في الثمانينيات على رغم خسارة جزء كبير من إنتاج النفط الإيراني والعراقي بسبب الحرب الدائرة بينهما وقتئذ، وقارنوا ذلك في الوقت الحالي: لا إسرائيل ولاغزة تنتجان النفط، ومع هذا ارتفعت أسعاره بنحو خمسة دولارات للبرميل، والسبب هو انخفاض الطلب على النفط وقتها مقارنة بالتوقعات بشكل كبير.
ولو نظرنا إلى التوقعات القديمة، فإن الطلب الحالي على النفط أقل مما كان متوقعاً بنحو 14 مليون برميل يومياً، وهذا أكبر من كل صادرات دول الخليج حالياً، لماذا؟ لأنه تحقق ما كان يخاف منه الملك السعودي الراحل فيصل بن عبدالعزيز، فالغرب يريد رفع أسعار النفط كي يطوروا البدائل والتقنية، ويستغنون عن النفط.
استخدام النفط في قطاع الكهرباء انخفض بشكل كبير وتلاشى في كل الولايات المتحدة والدول الأوروبية اليابان والصين والهند، حيث تم التحول إلى الطاقة النووية والفحم، كما تم سن قوانين تجبر شركات السيارات على تحسين كفاءة المحركات لدرجة أنه تم تخفيض استهلاك البنزين والديزل بشكل كبير، فالسيارة التي كانت تستهلك غالون بنزين لكل 14 ميلاً، الآن تسير 25 ميلاً أو أكثر بالكمية نفسها من البنزين، كما تغير تصميم البيوت والمباني بالكامل بحيث أصبحت أكثر كفاءة في استخدام الطاقة، وكذلك تم تطوير تقنيات عدة للحد من استخدام الطاقة بشكل عام، والنفط بشكل خاص.
خلاصة القول، النفط ليس سلاحاً، والغاز ليس سلاحاً، وكل الأدلة التاريخية تشير إلى أن استخدامهما سيرتد على من يستخدمهما، وأنه على الأقل، يمكن القول إن مساوئهما أكبر من منافعهما بكثير، ولا يمكن إنهاء المقالة من دون الإشارة إلى ثلاثة أمور: الأول وجود سيناريو أميركي تم تطويره في فترة مقاطعة النفط لاحتلال مواقع النفط في الخليج، وهذا ليس سراً، بل موجود في عشرات المراجع والتصريحات، والثاني أن إيران طالبت باستخدام سلاح النفط، طالما أن دول الخليج من يقوم بتخفيض الإنتاج، وليس هي، فأغلب المطالبين باستخدام سلاح النفط حالياً، ليس لديهم نفط، والثالث أن أكبر مساهمة يمكن أن تقدمها دول الخليج هي الدعم السياسي والمالي.
ستتم خسارة الدعم السياسي في حالة مقاطعة نفطية لأن الدعم يتم من طريق العلاقات والتفاوض، وليس من طريق التحدي والإجبار، لأنه يزيد من حدة الوطنية عند الطرف الآخر، ومن ثم فإن استعداده على تحمل الألم يكبر، وستتوقف إيرادات النفط بسبب المقاطعة، بالتالي لا يمكن تقديم المساعدات المالية.
المصدر: اندبندنت عربية
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر