هل يُقدِم العالم على ثورة خضراء جديدة؟ | مركز سمت للدراسات

هل يُقدِم العالم على ثورة خضراء جديدة؟

التاريخ والوقت : السبت, 9 سبتمبر 2023

غادة خديوي

بعد الحرب العالمية الثانية ازداد عدد سكان العالم ازديادًا كبيرًا جدًا، حتى ثارت المخاوف من عدم إمكانية توفير الغذاء لهم. وعانت العديد من الدول، وخاصّة دول شرق آسيا من المجاعات. ففي الصين حدثت مجاعة كبرى في الفترة 1959 -1961، ووصل عدد الوفيات حسب التقديرات الرسمية إلى 15 مليون شخص، ولكنّ الدراسات الدولية قدرت عدد الوفيات بأنه يتراوح بين 20 مليون إلى 45 مليون شخص. وكذلك تعرضت الهند لمجاعة كبيرة في عام 1966-1967، ووفقًا للتقديرات الرسمية، توفي حوالي 1.5 مليون شخص جراء هذه المجاعة. كذلك كانت هناك مجاعات أيضًا في كمبوديا (1975-1979)، وفيتنام (1945-1946)، وكوريا الشمالية (1994-1998). وتعتبر الأسباب الرئيسية لهذه المجاعات هي النزاعات والحروب، وسوء الإدارة والتخطيط، الذي يؤدي لتدهور النظام الاقتصادي؛ بسبب تطبيق سياسات غير فعّالة، وأيضًا التغيرات المناخية التي تتسبب في إعاقة نمو الحاصلات الزراعية.

ولمواجهة هذه المشكلة بذلت الدول، العديد من الجهود للقيام بممارسات مختلفة في الزراعة؛ ونتيجة لهذه الممارسات زادت كميات المحاصيل بصورة كبيرة لم تحدث من قبل. وأصبحت الدول التي كانت تعاني من المجاعة تنجح في إنتاج كميات كبيرة من المحاصيل، وقد زادت عن حاجة السكان، بل توفر لديهم فائض لتصديره.

عُرفت هذه الممارسات باسم «الثورة الخضراء»، والتي تمثل أهم فترات الابتكار الزراعي في القرن العشرين، وكانت تستهدف زيادة إنتاج الغذاء، والحد من الجوع والفقر، من خلال إدخال تقنيات جديدة، وحتى الآن هي إحدى أكبر الإنجازات البشرية في القرن الماضي، لتحقيقها الأمن الغذائي، والقضاء على الجوع من خلال الزيادة الهائلة في الانتاج، والتي وصلت لستة أضعاف في بعض المحاصيل على نفس المساحة المنزرعة سابقًا، بل إنها أيضًا جعلت بعض المجتمعات أكثر ثراءً.

الثورة الخضراء

تُنسب بدايات الثورة الخضراء عالميًا للعالم نورمان بورلاوغ، وهو عالم أمريكي مختص في الزراعة، حاز على جائزة نوبل للسلام عام 1970، نتيجة لعمله في إنتاج أصناف قمح عالية الغلة (HYVs)، ويعتبر عالميًا مؤسس الثورة الخضراء، واستطاع من خلالها انقاذ أكثر من مليار شخص من الجوع، وبدأت خطواته أثناء إجراء بحث في المكسيك في عام 1904، حيث طور أصنافًا جديدة عالية الإنتاجية من القمح، تتمتع بمقاومة عالية للأمراض، ولأن المكسيك كانت مجهزة بتقنيات الزراعة الآلية المتطورة، فقد تمكنت من تحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح، وإنتاج الفائض لتصبح في الستينيات من أكبر مصدري القمح، وهي التي كانت قبل استخدام هذه السلالات تستورد نصف حاجتها من القمح. قامت المكسيك في عام 1963 بتأسيس معهد أبحاث دولي لتطوير زراعة الذرة والقمح، من أجل إنتاج المزيد من الغذاء.

تعرضت الهند في الستينات لأزمة غذاء، وأوشكت أن تصاب بمجاعة كبرى بسبب نمو سكانها السريع، فلجأت الهند لاستخدام التكنولوجيا، وبدأت بسلالات الأرزIR8، وكان قد تم تطويره من خلال أبحاث متطورة، بالمراكز البحثية لزيادة إنتاجيته، وتقليل الماء المستخدم في زراعته، من خلال توفير الأسمدة اللازمة لنموه، وقد انتشر استخدام نوع الأرز IR8 عبر آسيا في العقود التالية، بعد نجاح الهند.

وأصبحت الثورة الخضراء بمفهومها الجديد منتشرة بشكل كبير، في دول جنوب شرق آسيا، وتحديدًا في الهند، والتي تعتبر نقطة الانطلاق الرئيسية لهذه الممارسات.

العوامل والمبادئ التي قامت عليها الثورة الخضراء

  • دمج التكنولوجيا الحديثة في الزراعة مثل: الري، والصرف الزراعي.
  • تطوير سلالات وأصناف جديدة من المحاصيل الرئيسية عالية الإنتاجية، والتي تمثل غذاء أساسيًا للمواطنين، مثل: الأرز، والقمح، والشعير.
  • استعمال مكثف للأسمدة الكيماوية، والمبيدات.
  • إصلاح زراعي يحقق نقل ملكية بعض الأراضي إلى الفلاحين؛ ليتمكنوا من الحصول على قروض لتمويل التكنولوجيا المستخدمة، وتوفير مستلزمات الإنتاج.

ونتيجة لنجاح هذه الدول في تطبيق هذه السياسات تضاعف الإنتاج إلى حد، وصل لستة أضعاف الناتج لنفس مساحات الأراضي الزراعية، وباستخدام نفس العدد من المزارعين، وكانت الهند، والمكسيك، والفلبين، والصين، وباكستان، وتايلاند هي أكثر الدول نجاحًا في تحقيق الثورة الخضراء.

أهم مميزات الثورة الخضراء

  • زيادة الإنتاجية الزراعية: من خلال أصناف وسلالات عالية الإنتاجية، ودمج التكنولوجيا الحديثة، وأيضًا تقليل الخسائر الناجمة عن الآفات والأمراض.
  • الحد من الجوع والفقر: كانت الدول النامية هي أكثر من يعاني من الجوع والفقر، وساعدت زيادة الإنتاجية في مجابهة مشكلات نقص الغذاء، وتحقيق الأمن الغذائي.
  • تحسين معيشة المزارعين: ساهمت زيادة الإنتاجية في زيادة دخل المزارعين، وخاصّة بعد تحقيق فائض وارتفاع معدلات التصدير.
  • الابتكار الزراعي: ساعدت التكنولوجيا الحديثة على تحسين الممارسات الزراعية، واستثمار الموارد بالشكل الأمثل، وتطوير البنية التحتية الزراعية.
  • تعزيز الاقتصاد الوطني: بسبب زيادة الإنتاج الزراعي ازدادت الصادرات الزراعية، وتحسن الرصيد التجاري للدول.
  • زيادة المساحات المنزرعة: من خلال السلالات الجديدة والتكنولوجيا، أصبح بالإمكان الزراعة في المناطق المختلفة سواء التي تعاني من فقر المياه، أو تغيرات حادة في درجات الحرارة، أو أنواع تربة عالية الملوحة.

الانتقادات التي وجُهت للثورة الخضراء

  • أصبحت النباتات لا تستطيع النمو بنجاح دون مساعدة الأسمدة.
  • التغير في توازن النظام الإيكولوجي، بسبب تغير طبيعة الزراعة، والمواسم الزراعية مما أثر بشكل مباشر على التنوع البيولوجي.
  • بسبب التماثل الشديد في السلالات وأنواع النباتات، أصبحت مخاطر الزراعة أكبر في حالة الإصابة بالآفات، مما يتوجب زيادة استخدام المبيدات بشكل كبير لمواجهة الآفات.
  • أصبحت المنتجات الزراعية المنتجة، تفتقر لشروط السلامة الغذائية؛ لأن بها نسبًا عالية من المبيدات، التي تضر بصحة المستهلك.
  • تلوث المياه والتربة، بالمبيدات الحشرية والأسمدة الكيميائية، مما يؤثر على البيئة والصحة العامة.
  • زادت أعداد السكان بمعدلات أسرع، بسبب عدم الخوف من حدوث المجاعات، أو انعدام الأمن الغذائي.

تجربة الهند في الثورة الخضراء

تعتبر التجربة الهندية من أهم التجارب الناجحة في تحقيق الأمن الغذائي، وجعلت الهند من أكبر السلالات الغذائية، التي تصدر القمح والأرز للدول الأخرى. في أغسطس 1968، أصدرت حكومة الهند طابعًا بعنوان “ثورة القمح” لتعزيز الوعي العام بأهمية زيادة إنتاج القمح، وأطلقت الحكومة برنامجًا كبيرًا لتطوير ونشر أصناف عالية الإنتاجية من الأرز، والذرة، والذرة الرفيعة، والدخن. وكانت هذه البرامج هي المحركات الرئيسية التي ساهمت في إحداث تقدم في الإنتاج والإنتاجية، دون زيادة المساحة المزروعة.

وفي عام 1965 بتوجيه من م. سواميناثان، أطلقت الحكومة الهندية الثورة الخضراء، التي استمرت من 1967 إلى 1978، والتي كانت أهم محركاتها وعوامل نجاحها، أنها استهدفت بشكل رئيسي تشجيع المزارعين على استخدام التقنيات الزراعية المتطورة، وتوفير الدعم، والتمويل اللازم لهم لتحقيق أقصى استفادة من هذه التقنيات، كما تم اعتماد نظام الدعم الحكومي للمزارعين، وتشجيع الاستثمار في البحوث، والتطوير لتحسين جودة المواد الغذائية، وزيادة إنتاجيتها.

ونتج عن هذه المحركات طفرة كبيرة في إنتاج الحبوب، وخاصّة القمح حيث ارتفع إنتاجه من 11 مليون طن عام 1960 إلى 55 مليون طن عام 1990، وزيادة محصول الفدان من 850 كجم / هكتار إلى 2281 كجم / هكتار، وبسبب خفض تكاليف الإنتاج على المزارعين، انخفضت ايضًا أسعار المواد الغذائية.

لقد واجهت الثورة الخضراء بالهند العديد من الانتقادات، بسبب الأضرار المحتملة للإنتاجية على المدى الطويل؛ نتيجة الاستخدام المفرط لمبيدات الآفات، والأسمدة، والمحاصيل الأحادية. ولكن نجاح الثورة الخضراء في تخفيض معدلات الفقر والجوع المستوطن، كانت ومازالت هي المحرك الرئيسي للعمل والاستمرار. أما أهم الدروس المستفادة من الثورة الخضراء في الهند، فهو أنه يمكن نقل التكنولوجيا الزراعية دوليًا للبلدان، التي لديها قدرة بحثية زراعية لتوفير الظروف المناسبة للبذور عالية الإنتاجية، لتناسب بيئات الإنتاج المحلية.

الثورة الخضراء في أفريقيا 

تعتبر أفريقيا من أكثر القارات معاناة من انعدام الأمن الغذائي؛ إلا أنه برغم نجاح الثورة الخضراء في عدد من الدول، إلا أنّ هناك عوامل متعددة أثرت على عدم نحاجها في أفريقيا، مقارنة بالدول الأخرى. أهم هذه الأسباب هو عدم وجود بنية تحتية زراعية قوية، خاصّة في منظومة الري والصرف، وأيضًا التنوع الكبير في التربة في المنطقة الواحدة، والتغير الحاد في المناخ. ولكنْ يعتبر السبب الأكبر في عدم نجاحها هو ضعف الإرادة لدى الحكومات للتنفيذ، بسبب ضعف التمويل، أو عدم رغبة المزارعين في استخدام التكنولوجيا لتكلفتها العالية.

معدل انتشار انعدام الأمن الغذائي على المستوى الشديد فقط، وعلى المستوى المعتدل، أو الشديد خلال الفترة من 2014-2021 بناء على مقياس المعاناة من انعدام الأمن الغذائي

  • تقرير حالة الأمن الغذائي والتغذية في العالم 2022

الثورة الخضراء في مصر

تواجه مصر تحديات كبيرة في مجال الأمن الغذائي، ووفقًا لتصنيف مؤشر الأمن الغذائي العالمي لعام 2022، تم تصنيف مصر في المركز 77 من بين 113 دولة، مما يعكس مستوى منخفضًا من الأمن الغذائي.

مؤشر الأمن الغذائي العالمي 2022

ولأن طبيعة الارض في مصر غالبيتها صحراء؛ يتم استخدام مساحات قليلة فقط من الأراضي للزراعة. وتبلغ مساحة مصر الخصبة حوالي 3.3 مليون هكتار، ربعها تقريبًا أراض مستصلحة من الصحراء. ومع ذلك، فإنّ الأراضي المستصلحة تضيف 7٪ فقط إلى إجمالي قيمة الإنتاج الزراعي، وذلك بسبب ضعف البنية التحتية في هذه المناطق، وارتفاع تكاليفها.

وقد سعت الحكومة لإطلاق مبادرات لزيادة الإنتاجية الزراعية، بالإضافة لجهود تحسين البنية التحتية لقطاع الزراعة مثل: تبطين الترع، وتشجيع الاستثمار في التكنولوجيا الزراعية المتقدمة. ووضعت مصر خطة لاستصلاح الأراضي الصحراوية، أبرزها مشروع 1.5 مليون فدان، ثم الدلتا الجديدة لزراعة 2.2 مليون فدان، ولكن لم يتم الانتهاء منهما حتى الآن.

وتتمثل تحديات مصر في:

  • ضعف البنية التحتية للنقل والتخزين، ونقص الموارد المالية.
  • صعوبة دمج أصحاب الحيازات الصغيرة، ورفع قدرتهم التنافسية.
  • عدم وجود مركز وطني لإنتاج سلالات الحبوب الجيدة، أو الأسمدة الجيدة للمزارعين.

لذلك، على مصر أن تتوجه لزيادة الاستثمار في الزراعة، وتطوير التكنولوجيا الزراعية لزيادة الإنتاجية، وتعزيز الاستدامة، وتعزيز البنية التحتية الريفية في مصر، وتحسين وصول الفلاحين إلى الأسواق، واتخاذ خطوات جادة لتفعيل الزراعات التعاقدية، ودمج أصحاب الحيازات الصغيرة لرفع مستوى معيشة صغار المزارعين.

هل يحتاج العالم ثورة خضراء ثانية؟

نعم، أصبح الآن لا مفر من التوجه لثورة خضراء ثانية للحد من الجوع في العالم، ومع استمرار نمو سكان العالم، ستظل هناك حاجة ماسّة لزيادة الإنتاج الزراعي والغذائي بشكل مستدام، لأنه طبقًا لتقرير ﺣﺎﻟﺔ اﻷﻣﻦ اﻟﻐذاﺋﻲ واﻟﺘﻐﺬﻳﺔ في العالم 2022، فإن التوقعات العالمية لتحقيق هدف القضاء على الجوع بحلول عام 2030، في تراجع وانتكاس، لهذا سيتوجب على العالم إعادة توجيه السياسات الغذائية والزراعية، لزيادة القدرة على تحمل كلفة الأنماط الغذائية الصحية.

وقد بدأت الدعوات لبدء ثورة خضراء جديدة بالفعل، منذ ارتفاع أسعار الغذاء في عام 2008، وزاد الاهتمام بالاستثمار الزراعي، وأطلق هذه الدعوات الأمين العام السابق للأمم المتحدة كوفي عنان في ذلك الحين. وبرغم تقديم قادة العالم وعودًا إنمائية كبرى، إلا أنّ هذه التعهدات تفشل بسبب الوتيرة السريعة للمتغيرات العالمية سواء الوباء، أو النزاعات، لذلك لابد من أن تفي الدول الكبرى بوعودها، وتزيد الاستثمار في البحث والتطوير في مجال الزراعة، وأن تستهدف الاستثمارات العالمية دعم الدول الفقيرة.

المرجح هو أنّ الثورة الخضراء الثانية ستكون أكثر تقدمًا، وتتلافى مشكلات الثورة الأولى، خاصّة من حيث ارتفاع نسبة المبيدات المستخدمة، والتأثير على التنوع البيولوجي، ولكنّ الثورة الخضراء الثانية تأتي ومعها مخاوف جديدة، لأنها ستكون ثورة جينية لسلالات معدلة وراثيًا بشكل أكبر، مما يثير مخاوف العالم من الإقدام المتعجل عليها، وربما سيصحبها ارتفاع في تكاليف التكنولوجيا المستخدمة، وتكلفة السلالات الجديدة، وهي تحديات مهمة تواجه الدول الفقيرة الأكثر احتياجًا، لزيادة إنتاج الغذاء.

المصادر:

 المصدر: المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية

النشرة البريدية

سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!

تابعونا على

تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر