سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
Diogo Borges Ferreira
استكشاف الفضاء ليس مجرد دليل على طموح الإنسان أو سعي للحصول على أراضٍ وموارد جديدة. إن مغامراتنا خارج غلاف الأرض الجوي مدفوعة بهدف أعمق، وهو: لفهم مكانتنا في الكون بشكل أفضل ولتقديم ابتكارات يمكن أن تحول الحياة على كوكبنا.
بينما تتجه أنظارنا نحو آفاق الفضاء البعيدة، فإننا نغفل عن الآثار الملموسة لاستكشاف الفضاء على حياتنا اليومية. غالبًا ما يُنظر إلى استكشاف الفضاء على أنه مغامرة بعيدة لا علاقة لها بواقعنا، ولكن الحقيقة هي أن لبرامج الفضاء دور محوري في دفع عجلة التقدم العلمي والتكنولوجي، وحل التحديات العالمية الملحة.
وفي حين توجّه الإنسانية أنظارها على استعمار عوالم أخرى، يكون المعماريون في طليعة هذا الجهد، حيث يطورون حلولًا مبتكرة للحفاظ على الحياة في أقسى البيئات. وتعالج هذه الحلول الرائدة بعضًا من أبرز التحديات التي تواجه الأرض، مقدمةً نهجًا جديدًا نحو الاستدامة، وكفاءة الطاقة، والتصميم المرن. فمن خلال تطبيق الدروس المستفادة من استكشافات الفضاء، يمكننا تحسين جودة الحياة على الأرض، مما يجعل بيئتنا المبنية أكثر استدامة وقابلية للتكيف مع الظروف المتغيرة.
الفضاء: مركز الابتكار غير المتوقع
لقد أثبت الفضاء أنه مصدر إلهام للإنسانية، حيث دفعنا إلى دفع حدود المعرفة والتكنولوجيا. فالتقنيات التي ولدت من الحاجة إلى استكشاف الفضاء، وجدت طريقها إلى حياتنا اليومية، مما ساهم في تحسين صحتنا ورفاهيتنا. من الأجهزة الطبية المتطورة إلى المواد المستخدمة في تصنيع الملابس الرياضية، فإن تأثير استكشاف الفضاء على حياتنا اليومية أمر ملموس.
تعتبر التصميمات المودولارية ابتكارًا حاسمًا مدفوعًا باستكشاف الفضاء. وتتطلب الظروف القاسية والتحديات اللوجستية للسفر إلى الفضاء هياكل قابلة للتكيف وقابلة للتوسع وسهلة النقل. ويجب تصميم مساكن الفضاء بمكونات مودولارية يمكن تجميعها وإعادة تكوينها بسرعة لتلبية الاحتياجات المتغيرة. لقد كان لهذا التركيز على المودولارية تأثير عميق على العمارة في الأرض. كما تُجمع المركبات الفضائية من مكونات قابلة للتبادل من أجل الكفاءة والمرونة، يمكننا تطبيق هذا المفهوم لإنشاء حلول سكنية وبنية تحتية وإدارة موارد مرنة ومستدامة. تخيل مدنًا مبنية من وحدات معيارية سهلة الاستبدال يمكن تكييفها مع الاحتياجات المتغيرة والظروف البيئية، أو حلول سكنية سريعة للإغاثة من الكوارث لتطويرات حضرية مرنة. ويمكن أن تعزز العمارة المودولارية الكفاءة والمرونة من خلال تقسيم الأنظمة المعقدة إلى مكونات أصغر قابلة للتبادل ومعيارية.
مشروع “The Mars Case” من تصميم OPEN Architecture هو مثال بارز على كيفية تأثير استكشاف الفضاء على تصميم العمارة. إذ تعرض هذه الفكرة هيكلًا مرنًا وقابلًا للتكيف لمساكن على كوكب المريخ، يمكن تجميعه من وحدات مُصنعة مسبقًا. ويمكن تخصيص كل وحدة لتلبية وظائف مختلفة، مثل غرف المعيشة، ومختبرات البحث، أو البيوت الزجاجية. وفي قلب التخطيط توجد وحدة خدمية، تبلغ أبعادها 2.4 × 2.4 × 2.0 متر، تضم المطبخ، والحمام، ومكونات الخدمة الميكانيكية. وتعمل هذه الوحدة أيضًا كغرفة هواء ومساحة تخزين. وعند “فتحها”، تطلق وحدة قابلة للنفخ ثانية، تتوسع لتشكل مساحة معيشة كروية للأنشطة مثل القراءة والتفكير والاسترخاء. ولا يقتصر هذا التصميم المتكامل على الحفاظ على المساحة فحسب، بل يعزز أيضًا الاستدامة، حيث يمكن طيها وتخزينها لتسهيل النقل. وتستفيد The Mars Case من الحرارة والعوادم والتكثيف وغيرها من المنتجات الثانوية من الأجهزة المنزلية. ويساهم هذا النظام المغلق في إعادة تغذية الطاقة والهواء والمياه إلى النظام البيئي، مما يقلل بشكل كبير من استهلاك الموارد والنفايات.
البناء ما وراء ذلك: دروس من العمارة التقليدية
بينما ظهرت التصميمات المودولارية كواحدة من الاستراتيجيات المعتمدة في عمارة الفضاء، وجدت الحلول المكانية أيضًا حليفًا قيمًا في العمارة التقليدية. لقد فرضت القيود والتحديات المرتبطة بنقل وتجميع الهياكل في المناطق النائية، إعادة التفكير في طرق البناء التقليدية. وفي هذا السياق، أثبتت الهندسة المعمارية المحلية بساطتها ومرونتها وقدرتها على التكيف مع الظروف المحلية.
من خلال الاستفادة من الممارسات التقليدية التي تفهم وتستفيد بالكامل من الموارد المحلية، تمثل دمج الطباعة ثلاثية الأبعاد في العمارة تقدمًا كبيرًا في تقنيات البناء المستدام. وتتيح هذه التقنية، من خلال خلق أشكال هندسية معقدة واستخدام مجموعة واسعة من المواد، طريقة مرنة وفعالة لبناء الهياكل باستخدام مواد محلية، وهو مفهوم يُعرف باسم استغلال الموارد في الموقع “ISRU”. تقلل هذه الطريقة من الاعتماد على المواد التي توفرها الأرض، مما يعزز الاكتفاء الذاتي في مساكن الفضاء. وتعتبر هذه العملية حجر الزاوية لاستكشاف الفضاء المستدام، ولها آثار مباشرة على العمارة والبناء على كوكبنا. من خلال تطوير تقنيات لاستخراج ومعالجة المواد من المصادر المحلية، يمكننا تقليل اعتمادنا على الموارد المحدودة وتقليل التأثير البيئي لمشاريع البناء. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يتيح إنشاء مواد البناء في الموقع البناء السريع والتكيف مع الظروف المتغيرة، مما يجعله ذا قيمة خاصة في الإغاثة من الكوارث والمناطق النائية. وتقلل هذه الطريقة من الفاقد والتأثير البيئي، مما يعزز الاقتصاد الدائري في صناعة البناء.
يعد مشروع الإقامة على القمر “The Luna Habitation Project” من تصميم Foster + Partners، بالتعاون مع وكالة الفضاء الأوروبية، مسعى رائدًا في هذه التقنية. من خلال اقتراح قاعدة قمرية مطبوعة بتقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد، يظهر المعماريون إمكانيات استغلال الموارد في الموقع والبناء المودولاري في البيئات القاسية. ويعرض هذا المشروع كيف يمكن تجميع المكونات المودولارية، المصنوعة من الغبار القمري، والمادة المتفككة التي تغطي سطح القمر، والمكونة من شظايا الصخور وحبيبات المعادن وجزيئات الزجاج، لإنشاء مساحات قابلة للعيش تكون واقية وقابلة للتكيف مع البيئة القمرية. ويتضمن التصميم وحدات قابلة للنفخ للنشر السريع والتوسع، بالإضافة إلى هياكل صلبة للإقامة طويلة الأمد. ويوضح هذا أن تلاقي العمارة التقليدية والطباعة ثلاثية الأبعاد يقدم مسارًا واعدًا للبناء من خلال دمج أفضل تقنيات البناء التقليدية مع التكنولوجيا الحديثة.
لكن من خلال هذه التجارب الخيالية فقط، يمكننا أن نرى كيف أن شركات مثل ICON وHAVELAR تقود الطريق في البناء بالطباعة ثلاثية الأبعاد على الأرض. من خلال عملها في تكساس، أظهرت ICON إمكانية بناء منازل ميسورة التكلفة ومستدامة باستخدام طابعات ثلاثية الأبعاد على نطاق واسع. ومن ناحية أخرى، أظهرت HAVELAR مدى سرعة وكفاءة بناء هذه الهياكل، وكيف يمكن إنشاء مساحات ذات جودة معمارية ملحوظة. ومع ذلك، فقد أثبتت كلتا الحالتين إمكانية بناء منازل ميسورة التكلفة ومستدامة باستخدام طابعات ثلاثية الأبعاد على نطاق واسع. ويُظهر ذلك أن هذه التقنية لديها القدرة على معالجة نقص المساكن وتقديم الإغاثة في المناطق المتأثرة بالكوارث الطبيعية من خلال السماح بإنشاء أشكال هندسية معقدة واستخدام مجموعة واسعة من المواد.
الاستفادة من تكنولوجيا الفضاء لتقدم العمارة
لقد نتج من تلاقي هندسة الطيران والعمارة علاقة تآزرية، حيث تؤدي التطورات في أحد المجالين إلى دفع الابتكارات في الآخر. إن استكشاف الفضاء، الذي يتميز بالظروف البيئية القاسية وقيود الموارد، قد استلزم تطوير مواد وتقنيات بناء وأنظمة طاقة متطورة. إذ تقدم هذه التقنيات إمكانات كبيرة لتعزيز أداء واستدامة ومرونة المباني الأرضية، خاصة في المناطق المعرضة للطقس القاسي أو الكوارث الطبيعية.
تعتبر المواد عالية الأداء مثل البوليمر المقوى بألياف الكربون “CFRP” مثالًا على نقل التكنولوجيا من الفضاء إلى الأرض. وقد تم تصميمها في الأصل للتطبيقات الجوية نظرًا لنسبة القوة إلى الوزن الاستثنائية، والمتانة، ومقاومة التآكل، وقد زادت فائدة CFRP في صناعة البناء. إن قوتها العالية ووزنها المنخفض تجعلها مثالية لتقوية الهياكل دون إضافة كتلة كبيرة، مما يقلل من استهلاك المواد ويزيد من عمر الخدمة، مما يسهم في بناء مبانٍ أكثر استدامة ومرونة.
بالشكل نفسه، يُظهر مفهوم الخرسانة، التي يمكنها إصلاح شقوقها ذاتيًا، والمستلهم من الأنظمة البيولوجية والمصقول من خلال أبحاث الفضاء، إمكانات الإصلاح الذاتي للمواد. من خلال تضمين كبسولات صغيرة تحتوي على عوامل الإصلاح داخل مصفوفة الخرسانة، طور الباحثون مواد قادرة على إصلاح الشقوق بشكل مستقل، مما يعزز المتانة ويقلل من تكاليف الصيانة. ويمكن أن تسهم تطبيقات الخرسانة القابلة للشفاء في البنية التحتية بشكل كبير في إطالة عمر الهياكل وتقليل الأثر البيئي.
تعتبر كفاءة الطاقة، وهي اعتبار أساسي في استكشاف الفضاء بسبب الموارد المحدودة، دافعًا أيضًا للتقدم في تقنيات البناء الأرضية. وأنظمة الطاقة الشمسية وحلول تخزين الطاقة، التي تم تطويرها في البداية للتطبيقات الفضائية، أصبحت خيارات قابلة للتطبيق وفعّالة من حيث التكلفة لتوليد وتخزين الطاقة المتجددة. وتقدم أنظمة دعم الحياة المغلقة، المصممة لإعادة تدوير الماء والهواء داخل المساحات المحدودة، رؤى قيمة حول استراتيجيات إدارة الموارد. فمن خلال تكييف هذه التقنيات مع المباني الأرضية، يمكن إنشاء هياكل عالية الكفاءة ومستدامة تقلل من استهلاك الموارد وإنتاج النفايات.
تقدم دمج التقنيات المستمدة من الفضاء في البيئة المبنية، فرصة فريدة للتصدي للتحديات العالمية الملحة مثل: تغير المناخ، وندرة الموارد، وتدهور البنية التحتية. فمن الطباعة ثلاثية الأبعاد والتصميم المودولاري إلى استغلال الموارد وكفاءة الطاقة، تعالج هذه الابتكارات بعضًا من أبرز التحديات في صناعة البناء. ومن خلال اعتماد هذه التقنيات والمبادئ المدفوعة بالفضاء، يمكننا إنشاء مبانٍ أكثر استدامة ومرونة وكفاءة، مما يحسن جودة الحياة للناس حول العالم. ومع استمرارنا في استكشاف آفاق جديدة، ستسهم الدروس المستفادة من استكشاف الفضاء في تشكيل مستقبل بيئتنا المبنية.
إعداد: وحدة الترجمات بمركز سمت للدراسات
المصدر: arch daily
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر