فلطالما اعتبر العالم الغربي، والشمال الغني عموما، القارة السمراء مجرد مصدر للمواد الأولية لتغذية صناعاته وتجارته وتراكم ثرواته. ذلك منذ ما قبل حتى استعمار الامبراطوريات الاوروبية البائدة لدول إفريقيا، فالعالم الجديد خاصة الولايات المتحدة بناها الافارقة الذين جلبهم “الخواجات” عبيدا يفلحون الأرض ويرفعون قواعد انشائها. وما بعد الاستقلال في القرن الماضي ظلت إفريقيا مجرد “ساحة خلفية” للاستعمار القديم وتطورت أشكال أخرى من الاستغلال ما زالت قائمة حتى الآن.

تشبع الشمال الآن، وأصبحت فرص تطوره وتوسعه تتضاءل باضطراد. وبحثا عن منافذ تجديد تبرز قارة إفريقيا، التى ما زالت بكرا في كثير من جوانب التطور الاقتصادي نتيجة مشاكل الحكم فيها التي يغذيها الاستعمار القديم والجديد لابقائها اقل تقدما.

ورغم حديث الغرب قبل سنوات عن تكالب الصين، والقوى الصاعدة اقتصاديا في العالم غير الغربي التقليدي، على إفريقيا إلا ان ذلك لم يكن من باب الحرص على القارة وانما في سياق صراع القوى التقليدية مع القوى الصاعدة على استغلالها. وفي الأعوام الققليلة الأخيرة خاصة بعد أزمة وباء كورونا والحرب في أوكرانيا زاد الاهتمام الغربي بالقارة السمراء بشكل لافت. وتزامن ذلك مع تغييرات مهمة في دول القارة نحو الانفتاح والإصلاح بهدف جذب الاستثمارات وتنويع اقتصاداتها لتحقيق نمو مستدام.

هذا السبوع أصدرت هيئة تابعة للأمم المتحدة تقريرها السنوي عن الاقتصاد الافريقي مركزة فيه على أن هذه هي “لحظة إفريقيا” كي تصبح قاعدة مهمة لسلاسل التوريد العالمية. وأشار تقرير مؤتمر الامم المتحدة للتجارة والتنمية (أونكتاد) إلى حاجة دول إفريقيا لاستثمارات عالمية لمساعدتها على التحول الاقتصادي واحتلال مكانة بارزة في الاقتصاد العالمي.

بالطبع، من الميزات التي تتمتع بها أفريقيا انها مصدر مهم عالميا للمعادن التي تدخل في الصناعات التكنولوجية المتطورة من النحاس والكوبالت إلى الليثيوم واللمونيوم والمنجنيز. ذلك فضلا عن احتياطيات بعض دول القارة الكبيرة من اليورانيوم والذهب وغيره. حتى قطاع الطاقة في إفريقيا من نفط وغاز اكتسب أهمية كبيرة مع حاجة أوروبا إلى مصادر طاقة بديلة عن النفط والغاز الروسي الذي حظرت استيراده العام الماضي.

أهم ما يمكن ملاحظته في التقرير الذي يقع في نحو 250 صفحة هو الاهتمام بتحول الدول الافريقية إلى تشغيل تلك المعادن والمواد الأولية وتصنيعها بدلا من استخراجها وتصديرها كي تصبح القارة مركزا لسلاسل التوريد العالمية للصناعة كثيفة الاعتماد على التكنولوجيا. وبالتوازي يفرد التقرير مساحة معقولة لتوضيح كيف أن هناك طبقة متوسطة صاعدة في دول إفريقيا يمكن أن تشكل سوقا مهمة واعدة لاستهلاك المنتجات التكنولوجية.

هناك أيضا اهتمام بالتحولات الاقتصادية في عدد معقول من دول القارة، ويذكر التقرير 17 دولة تعمل بالفعل على تعديل قوانينها وتشريعاتها وقواعد تنظيم الأعمال بما يسمح بالاستثمارات الاجنبية بسهولة ويشجع القطاع الخاص على العمل. ويمتدح ذلك باعتباره فرصة جيدة لتنويع الاقتصاد وتوفير فرص العمل وزيادة دخول القوى العاملة في القارة.

المشكلة في تحقيق تلك الآمال، وامكانية انتهاز إفريقيا الفرصة، أن دول القارة ترزح تحت عبء ديون ثقيل. ومع ارتفاع اسعار الفائدة في الدول الكبرى تأكل خدمة الديون من ميزانيات الدول الافريقية بما يعيق قدرتها على الاستثمار في التحول الاقتصادي. هذا فضلا عن أن قدرتها على الاقتراض أو إعادة هيكلة الديون تواجه صعوبة بالغة، فاقتراضها يكلفها أربعة أضعاف ما يتكلفه المقترضون في الغرب.

أما الاستثمار في التصنيع التكنولوجي فما زال ضعيفا جدا، ولا يزيد نصيب إفريقيا من تلك الاستثمارات عالميا عن نسبة اثنين في المئة. صحيح أن ذلك الاستثمار تحسن قليلا في العامين الأخيرين ليصل إلى نحو أربعين مليار دولار إلا أن دول القارة بحاجة إلى اضعاف مضاعفة لهذا الرقم إذا كان لها أن تنتهز الفرصة وتحقق لحظتها كمكون صاعد في الاقتصاد العالمي.

أما التركيز على سلاسل التوريد، فيأتي في سياق سعي الولايات المتحدة والغرب لتقليل الاعتماد على الصين كأكبر مركز لسلاسل التوريد في العالم خاصة في الصناعات التكنولوجية. وهناك تشجيع لمراكز أخرى، كالهند مثلا. إلا أن إفريقيا تمثل فرصة افضل لسهولة الوصول إلى المواد الأولية التي تستخرج من أراضيها وقوتها العاملة المرنة سهلة التكيف.

تبقى مسألة مهمة، وهي أن أغلب نشاط الاستكشاف والاستخراج والتصدير لتلك المواد الأولية تقوم به شركات عالمية عابرة للقارات مركزها الرئيسي في الغرب. ومن غير الواضح ان كانت تلك الشركات سترى مصلحة لها في تطوير التصنيع محليا في إفريقيا أم تفضل نظام عملها الحالي الذي يدر عليها أرباحا أكبر. وفي النهاية ليس مهما هنا أن تتطور إفريقيا أم لا، بقدر ما تهم العائدات والأرباح للشركات الغربية.

المصدر: سكاي نيوز عربية