سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
رابحة سيف علام
لاشك أن الحرب الأوكرانية قد أجبرت أوروبا على تغيير استراتيجياتها الخاصة بالطاقة، فبعد عقود من الاعتماد الكامل على روسيا في توفير أكثر من 40% من استهلاك الطاقة في أوروبا، أصبح الأمر أخطر من أن يُترك لإرادة الكريملين. فأوروبا التي كانت تعتبر أن تشبيك المصالح مع روسيا هو وسيلة آمنة لاستمالة موسكو، أصبحت ترى اليوم أنه لابد من التخلص من هذه الاعتمادية كي لا يكون القرار الأوروبي أسيراً للاحتياج للطاقة.
ومنذ مارس الماضي، تعهد الاتحاد الأوروبي بخفض الاعتماد على الطاقة الروسية بمقدار الثلثين، كما توجهت مختلف الدول الأوروبية إلى تخزين الغاز الروسي وخفض الاستهلاك منه طول الصيف كي تدخل موسم الشتاء الحالي بمخازن ممتلئة بمقدار يزيد عن 90%. فالغاز الروسي في أوروبا له استخدام مزدوج، فمن جهة يتم استخدامه في التدفئة خلال الشتاء وهذا لا غنى ولا بديل عنه بحكم اعتماد البنية التحتية للتدفئة على الغاز بشكل شبه حصري. ومن جهة ثانية فهو يستخدم في توليد الكهرباء التي تمد الشبكة الأوروبية باستدامة التيار الكهربائي وهي حيوية لاستمرارية عمل المصانع ومختلف المرافق.
ولذا، فمع أولى إرهاصات المواجهة بين أوروبا وروسيا على خلفية الحرب الأوكرانية كان التحذير والتهويل من إمكانية مواجهة شتاء قارص بلا تدفئة أو انقطاعات مؤلمة في الكهرباء تعطل الحياة الأوروبية كما يعرفها الجيل الحالي. ولكن في الحقيقة تمكن القادة الأوروبيون عبر حزمة من السياسات الجديدة من تخطي هذا الفخ بأقل قدر من الخسائر. وواجهوا التهويل والدعاية الروسية عبر توسيع الشراكات مع دول جنوب المتوسط.
ولكن يظل التخوف حقيقياً من تداعيات تحويل بوصلة الاعتماد الأوروبي في الطاقة من روسيا إلى مصادر أخرى. فأسعار الغاز العالمية مرتفعة بالفعل وقد تأثرت الأسواق الأوروبية بهذا الارتفاع سواء بارتفاع فاتورة الغاز والكهرباء على الأسر والشركات والمصانع مما خفض القدرة الشرائية للأوروبيين وانعكس في شكل تضخم قد يهدد بركود أو تباطؤ في الاقتصاد الكلي.
ومن هنا اتجه الاوروبيون للبحث عن خطط بديلة للطاقة، ومن ذلك وضع سقف لأسعار الطاقة الأوروبية بشكل موحد، مما يخفف من تذبذبات سعر الطاقة على المستهلك الأوروبي. فبدلاً من أن يكون السعر المتاح للمستهلك متأرجحاً يوماً بعد يوم، تقوم السلطات الأوروبية بوضع سقف للسعر ودعم هذا الفارق ولا تحرك السعر إلا إذا تخطى سقفاً محدداً (180 يورو لكل ميجاوات/ساعة) لمدة ثلاثة أيام متتالية في الأسواق العالمية.
ويحد هذا الاتفاق الذي تم التوصل إليه بصعوبة كبيرة في ديسمبر الماضي، من قدرة موسكو على التلاعب بالمستهلك الأوروبي ويلقي بعبء فارق السعر على الدول الأوروبية كما يعطيها هامشاً لتغيير الأسعار ضمن شروط محددة بما لا يضر بمصالح الشركات المنتجة من جهة والمستهلك النهائي من جهة أخرى. وفي مقابل ذلك تعهدت الدول الأوروبية بزيادة الاستثمارات في مجال توليد الكهرباء من الطاقة المتجددة كالرياح والطاقة الشمسية والهيدروجين على مدار السنوات القادمة بعد تخطي الأزمة الراهنة.
بدائل أخرى
إلى جانب سياسة تسعير الطاقة الجديدة، اتجه عدد من الدول الأوروبية إلى معاودة الاستثمار في المفاعلات النووية لتوليد الطاقة الكهربائية. ففرنسا الرائدة في هذا المجال أوروبياً تواجه ضغطاً أقل فيما يخص الاعتماد على الغاز الروسي، ولكنها من جهة ثانية أصبحت مجبرة على صيانة وإعادة تأهيل مفاعلاتها النووية المستخدمة في إنتاج الكهرباء من أجل مواكبة التطورات. فالترسانة النووية الفرنسية قديمة ولابد من تحديثها من حين لآخر لضمان السلامة النووية ومنع الكوارث المتصلة بها.
أما ألمانيا فكانت قد تعهدت قبل الأزمة بإغلاق عدد من المفاعلات النووية لأغراض السلامة وخفض المخاطر واستبدالها بأنواع أخرى من الطاقة الآمنة مثل الطاقة الشمسية والرياح والهيدروجين. ولكن في الحقيقة واجهت برلين معضلة واضطرت لمعاودة الاعتماد على الفحم كمصدر رخيص لتوليد الكهرباء رغم ضرره البيئي الكبير، حيث بلغت مشاركة محطات توليد الكهرباء بالفحم نحو ثلث طاقة توليد الكهرباء بألمانيا خلال عام 2022.
أما في جانب التعاون الدولي، فقد اتجهت أوروبا نحو الضفة الجنوبية للمتوسط بحثاً عن الغاز، فالجزائر باعتبارها أحد العشرة الكبار من منتجي الغاز في العالم أصبحت هي محط الأنظار الأوروبية. ففي العادة كانت إيطاليا وأسبانيا وفرنسا والبرتغال أهم عملاء الغاز الجزائري ولذا كانوا أقل تضرراً من شح الغاز الروسي بعد حرب أوكرانيا، ولكن خلال زيارة رئيسة الوزراء الإيطالية الأخيرة للجزائر تم الكشف عن خطة لاستخدام مسار الغاز الجزائري إلى إيطاليا لتغذية الشبكة الأوروبية ككل.
فالجزائر ترتبط بأوروبا بثلاثة خطوط للغاز، الأول هو “ترانسميد” وهو خط قديم يمر عبر تونس إلى صقلية، وخط “جالسي” الذي كان قد تجمد تنفيذه منذ نحو عشر سنوات وعادت الاتفاقات بشأنه من جديد لضخ فائض الانتاج الجزئري من الغاز إلى إيطاليا عبر جزيرة سردينيا. بالإضافة إلى خط “ميدغاز” الذي يصل إلى إسبانيا والبرتغال مروراً بالأراضي المغربية وعادة ما يتأثر بتوتر العلاقات بين الجارين المغاربيين الشقيقين.
ولكن لأن عقود توريد الغاز طويلة الأجل ولا يمكن تغييرها بين ليلة وضحاها، كما أنها تحتاج استثمارات كبيرة للتنقيب والتسييل وللنقل عبر الأنابيب، لم يكن من الممكن إلغاء الاعتمادية الأوروبية على الروس بشكل فوري. وقد دخلت الجزائر- عبر شركتها الوطنية للطاقة سوناطراك- في مفاوضات مضنية مع الشركاء الأوروبيين خلال العام الماضي لتغيير أسعار الغاز وفق العقود الجديدة لتناسب الزيادة العالمية في سعره، فضلاً عن زيادة ضخ الاستثمارات في هذا المجال لزيادة الإنتاج ليناسب مستوى أمن الطاقة الذي تطمح إليه القارة العجوز.
ومن ثم فإن الاعتمادية الأوروبية على جنوب المتوسط ستقترب لتحل محل الاعتماد على روسيا دون أن يتم تعويض ذلك بالكامل نظراً لتفاوت القدرات الإنتاجية الروسية والجزائرية بكل تأكيد. وفي إطار هذه الفجوة، تبقى السياسات الأوروبية ضرورية لتقديم محفزات لتخفيض الاستهلاك والاستثمار في الطاقة المتجددة مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح بما يدعم خطط خفض الانبعاثات لمواجهة التغير المناخي. ولكن الأمر لا يخلو من ردة ومعاودة استخدام الفحم كمصدر طاقة ضار للبيئة كالذي لجأت إليه ألمانيا بشكل متزايد في النصف الثاني من عام 2022 لتعويض النقص في الإنتاج الكهربائي وتغذية الشبكة بشكل دائم.
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر