المياه المشتركة نقطة عمياء للبقع الزراعية التونسية | مركز سمت للدراسات

المياه المشتركة نقطة عمياء للبقع الزراعية التونسية

التاريخ والوقت : الخميس, 15 أغسطس 2024

رياض بوعزة

التعايش مع تفاقم عجز مخزون الموارد المائية السطحية والجوفية لتونس، وخاصة للمزارعين في المناطق الغربية لا يجب أن يستمر في ظل الجفاف الطويل ودرجات الحرارة التاريخية، فعدم بلوغ مرحلة النضج السياسي والدبلوماسي والميداني، لتقليل تداعيات الآفة، ربما يُحدث هزات أكبر، قد ترتد إلى الأجيال القادمة في شكل هروب القرويين إلى المدن هربا من العطش، لنصطدم بحاجز قلة الغذاء.

تبدو مشكلة انحسار البقع الزراعية في الحدود بين تونس والجزائر، لاسيما في ولايات (محافظات) الكاف والقصرين وقفصة مرشحة للتصاعد بعدما أدى النقص في هطول الأمطار لسنوات إلى زيادة الاهتمام بالمياه الجوفية. ويواجه هذا الوضع عددا من القضايا الملحة لاسيما للمجتمعات الفلاحية، بما في ذلك ارتفاع ملوحة المياه على طول الساحل والخلافات عبر الحدود حول استخدام حوض غدامس، الذي يتقاسمه البلدان مع ليبيا.

شهادات المزارعين التونسيين على الحدود تؤكد أن أرزاقهم في تضاؤل بسبب مشاريع على الجانب الآخر من الحدود تستنزف المخزون المائي، وهي تشكل نقطة عمياء في مشكلة عامة تعكس حجم الضرر البالغ الذي لحق بتونس بسببها، لأنه مع ندرة الموارد المائية بات البلد يحتل المرتبة الـ33 في العالم من بين البلدان الأكثر تعرضا للإجهاد المائي، بينما تتوقع نماذج المناخ انخفاضا مائيا بنسبة 28 في المئة بحلول 2030.

أحد مآخذ التذمر، هو أن الجزائر تشجع مزارعيها في المناطق الحدوديّة الشرقية على استصلاح الأراضي بتشييد السدود وحفر الآبار ومنحهم امتيازات لتطوير المحصول وزيادة الإنتاج، الأمر الذي مس من حق تونس في المياه المشتركة بين البلدين، والتي هي أصلا نادرة، وإذا استنزفت فمن الصعب تعويضها، وقد يتسبب هذا بنزوح لأهالي تلك المناطق نحو مدن الساحل، وليس فقط توقف زراعتهم.

لا نشك في أن الزراعة تلعب دورا رئيسيا في الاقتصاد التونسي، وهي كذلك للجزائر، وخاصة في المناطق الريفية الفقيرة. فقبل اندلاع أزمة تونس في 2011، ساهم القطاع بنحو ثمانية في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، (اليوم بنحو 12 في المئة تقريبا)، وبنحو عُشر إجمالي الصادرات السنوية، وبعشرين في المئة من فرص العمل بشكل مباشر في الزراعة، وغير مباشر في الصناعات الغذائية.

الواقع الملموس يظهر لنا أن 34 في المئة من السكان يعيشون في الأرياف ويعتمدون على الزراعة، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، حيث تظل المصدر الرئيسي للقوى العاملة، وتمثل 44 في المئة من فرص العمل الريفية. علاوة على ذلك، فهي توفر فرص العمل لجميع النساء تقريبا في الريف، ومن ثم، فإنها مجال مهم للغاية للعيش والحد من الفقر، وخاصة في المناطق المتخلفة.

لكن فعليا تونس لا تمتلك سياسة زراعية حقيقية وخاصة إذا تعلق الأمر بتوفير المياه رغم ما سمعناه من جعجعة بشأن البرامج والخطط والاستثمار في هذا المجال على مدار سنوات، بل لديها سياسة للأمن الغذائي تعوق في الواقع تنمية زراعتها. فالوضع المائي القائم، هو انعكاس للوضع السياسي للدولة، بمعنى آخر هو سوء إدارة للدولة لأحد الملفات الحساسة. ومن هنا تبرز الحاجة إلى اعتماد مشروع وطني لرصد المياه الجوفية، خصوصا في مناطق الحدود لكي يتسنى لها الجلوس مع الجزائريين، وتضع حدا لهذا الاستنزاف.

السياسات الزراعية الحالية للدولة، ورغم النية التي يُسوّق لها المسؤولون من خلال نهج مرحلي تتبعه السلطات، لكنها عمليا غير فعالة وليست عادلة، ومن المفارقات أنها تسهم في زيادة البطالة والتفاوت الاجتماعي، لعدة أسباب، من بينها عدم الاستقرار في البرامج أو التطوير في الإستراتيجيات، التي يفترض أن تكون استباقية، وتشمل خططا مختلفة تماما كما هو الحال مع مدرب كرة القدم!

لقد عمل أسلوب التدخل الحكومي منذ أعوام وإلى غاية اليوم على قمع القطاع حتى أثناء الوفرة المائية، مما أدى إلى تشويه الإنتاج بعيدا عن المنتجات التي تتمتع تونس فيها بميزة نسبية طبيعية في حوض المتوسط تجاه المنتجات في دول أخرى، والتي لا تتمتع تونس بقدرة تنافسية كبيرة فيها، ولكنها تشكل مفتاحا لأمنها الغذائي واكتفائها الذاتي، دون إغفال أنه أضحى مشكلة وجودية للمنتجين.

هذه السياسة ساعدت في زيادة الاكتفاء الذاتي في المواد الغذائية الأساسية أثناء فترة ما عبر تضخيم نمو المنتجات الزراعية المتوفرة في أماكن أخرى من الدول المجاورة، ولكن هذه العملية أدت إلى تشوهات، وإعادة توزيع غير عادلة للثروة، مما أبقى إنتاج المحاصيل عند مستوى دون المستوى الأمثل، وغير قادر على تحقيق إمكاناته الكاملة.

ولذا، فإن اعتماد سياسة رصد وطنية للمياه الجوفية عبر تطويع الأبحاث والدراسات وتعزيز التعاون بين الوزارات والرقمنة، وإنشاء قاعدة بيانات مركزية تتضمن معلومات عن مستويات المياه الجوفية، واستخدامها، والاتجاهات المستقبلية، سيساعد في الحفاظ عليها كونها موردا حيويا خاصة في المناطق الجافة وشبه الجافة مثل تونس التي تحتاج إلى نظام دقيق للتأكد من عدم استنزافها بشكل مفرط، كما يدعم التخطيط المحكم وضع سياسات زراعية مستدامة ويقلل من مفاجآت خطر الأزمات المائية على الأجيال القادمة.

على تونس ألا تتجاهل تفعيل دبلوماسيتها المائية باستمرار ودون توقف، فهي أمر غاية في الأهمية اليوم، ورغم أنها قطعت خطوة قبل أشهر مع الجزائر بتوقيعهما مع ليبيا على اتفاق ثلاثي لإدارة المياه الجوفية بالمناطق الحدودية المشتركة، والتي تشير التقديرات إلى أنها تحتوي على 60 تريليون متر مكعب، منها 40 تريليونا ضمن حدود الجزائر، لكن هذا لا يعني أن المشكلة قد تم حلها من جذورها.

المصدر: العرب

النشرة البريدية

سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!

تابعونا على

تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر