سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
أسامة رمضاني
يتركز الاهتمام خلال المؤتمر الأممي حول تغير المناخ “كوب 28” الملتئم حاليا في مدينة دبي على جملة من التحديات الكبرى المرتبطة بانعكاسات الانحباس الحراري على البشر والمحيط. من أول القرارات المهمة للقمة إطلاق صندوق لتعويض البلدان المتضررة عما تتسبب فيه ظواهر تغير المناخ من كوارث وخسائر. ومجابهة هذا النوع من التحديات تعد بكل تأكيد قضية تهم العالم بأسره. ولكن جوانب عديدة من ذلك تهم العالم العربي على وجه الخصوص. نبهت العديد من التقارير المختصة إلى أن الكثير من البلدان العربية تواجه خطر ارتفاع درجات الحرارة خلال العقود القادمة إلى مستويات قد تجعل الحياة في البعض منها لا تطاق. ويقول تقرير للمنتدى الاقتصادي العالمي إن درجات الحرارة ما انفكت ترتفع في منطقة شمال أفريقيا والشرق الأوسط بنسق يضاهي ضعف النسق الذي ترتفع فيه في بقية بلدان العالم. وقد ترتفع درجات الحرارة في المنطقة بأربع درجات مئوية كاملة في حدود سنة 2050. ونتجت عن ارتفاع درجات الحرارة عدة ظواهر تدعو إلى الحيطة والانشغال، ومن بينها الحرائق التي تلتهم كل عام عشرات الآلاف من الهكتارات من الغابات في المنطقة. وقد أتلفت الحرائق مثلا خلال أغسطس 2021 حوالي 10 آلاف هكتار من هذه المساحات في الجزائر و7.500 هكتار في لبنان و5 آلاف هكتار في تونس.
ويقول تقرير إسباني إن حوالي 50 ألف حريق تندلع سنويا في حوض المتوسط. ينجر كذلك عن الانحباس الحراري استمرار الجفاف لسنوات عدة، كما هو الحال في تونس والأردن والعراق وبلدان أخرى في المنطقة. كما يتسبب ذلك في زيادة منسوب مياه البحر والأنهار وارتفاع درجة حرارة البحار والمحيطات بما يساهم في تشكل الأعاصير بشكل غير مسبوق، مثلما حدث بالنسبة “إعصار دانيال” الذي ضرب مدينة درنة الليبية في سبتمبر الماضي وتسبب في سقوط آلاف الضحايا وتهجير آلاف آخرين بعد انهيار سدين في المدينة نتيجة الإهمال وغياب الصيانة. الكوارث البيئية مؤهلة للتفاقم في كافة مناطق العالم ومن بينها المنطقة العربية. ومن شأنها أن تتسبب في نزوح مئات الآلاف من مناطق سكناهم وهجرة آخرين خارج حدود بلدانهم وفي إلحاق أضرار جسيمة بالإنتاج الزراعي وحتى في استشراء الأمراض والأوبئة. وهذه مخاطر ليست هينة في منطقة عربية يعد معظم بلدانها ضمن البلدان محدودة الدخل أصلا. إضافة إلى ذلك فإن بعض الدراسات تؤكد على وجود علاقة بين انحباس الأمطار وتفاقم الجفاف واندلاع النزاعات والاضطرابات الاجتماعية المخلة بالأمن والاستقرار.
لا أحد يستطيع التغافل عما قد يتسبب فيه التغير المناخي من كوارث. وقد يكون في صندوق “الخسائر والأضرار” الذي تم إنشاؤه في دبي جانب من الحل، وذلك خاصة باعتبار البعد العملي الذي صبغته الرئاسة الإماراتية للمؤتمر على المبادرة. ولكن الجانب الأكبر في المعادلة يبقى ملقى على كاهل المنظومة العربية (الحكومية وغير الحكومية) حيث غابت إلى حد الآن الآليات المشتركة الضرورية لرصد الأخطار البيئية وتنسيق التدخل السريع والفعال لمجابهة حالات الطوارئ والكوارث عند حدوثها. بعض الكوارث لا يمكن التنبؤ بحدوثها. لكن الكثير من الكوارث هي نتيجة مباشرة للتصرفات البشرية الخاطئة والسياسات الحكومية قصيرة النظر. يمكن في الكثير من الحالات تجنب تداعياتها أو التقليل منها. أتساءل أحيانا هل أن منظومة أرصاد واستشعار عربية فعالة كان بإمكانها أن تجنب ليبيا كارثة درنة وأن تنسق عمليات الإنقاذ فيها بنجاعة أكبر رغم العلاقات السياسية المضطربة بين قطبي الحكم فيها. سواء تعلق الأمر بليبيا أو بغيرها فإن الحلول تبدو صعبة المنال عندما تكون هذه الدولة أو تلك غير قادرة على إطفاء الحرائق التي تلتهم غاباتها أو على مجابهة الفيضانات الجارفة التي تمحو مدنا بأكملها من خارطتها الترابية.
تأتي المساعدة عامة عبر مبادرات فردية لبعض دول المنطقة القادرة على الإغاثة أو الراغبة فيها تبعا لمستوى علاقاتها بالبلاد المتضررة. ويأتي التدخل كذلك من الدول الأجنبية حسب استعدادها لمد يد “المساعدة الإنسانية” لهذه البلاد أو تلك. وتبقى الهنات الإقليمية في هذا المجال كبيرة وحان وقت معالجتها. فرغم كل المؤتمرات والقرارات المتمخضة عن اللجان رفيعة المستوى لا تزال العديد من الحلقات العملية مفقودة في العلاقات بين دول المنطقة، حلقات لن تعوضها الحوكمة الرشيدة ولا الرؤية السديدة للقيادات السياسية ولا الخطابات الداعية إلى الاعتماد على الذات. هناك حاجة إلى آلية أو آليات عملية يمكن أن تضمن جاهزية بلدان المنطقة لمواجهة حالات الطوارئ والأزمات الكبرى، سواء كانت هذه الأزمات كوارث طبيعية أو جوائح صحية أو غيرها. وكل ذلك يحتاج أولا إلى إرادة سياسية. رأينا جميعا هذا النقص في أكبر تجلياته إبّان أزمة كوفيد. بقيت البلدان العربية تخوض معركة جمع وتوزيع الأمصال وهي مشتتة الصفوف، في ما كانت الدول الأوروبية تنسق بشكل وثيق جهودها للاستئثار بالتلاقيح دون أي حرج أو تورع من اعتبارات أخلاقية تجاه الآخرين. وكانت الولايات المتحدة أيضا تتحرك من منطلق حماية مصالح الأميركيين وصحتهم أولا وأخيرا.
اليوم تبقى هذه الحلقة مفقودة إذ تغيب الإستراتيجيات الإقليمية التي تستطيع التعالي عن الخلافات السياسية وتقدر على إطلاق المبادرات العملية بعيدة الأمد لمواجهة تداعيات الانحباس الحراري. توجد البلدان العربية في الخط الأول لجبهة التغيير المناخي. ولكن العديد منها غير قادرة على الاستشراف والتأقلم مع التحديات التي تفرضها هذه التحولات البيئية، إما لأنها غارقة في نزاعات مسلحة أو صراعات داخلية لا تنتهي أو لأن منظومة الحكم فيها منهكة من جراء الركض وراء توفير الحاجيات الأساسية اليومية لشعوبها. تكمن مصلحة كل هذه الدول في العمل بشكل جماعي على استشراف ومواجهة الظواهر العابرة للحدود والمنبثقة جزئيا أو كليا عن التغير المناخي ومن بينها ظاهرة النزوح والهجرة غير النظامية. البعض يشيح بوجهه عن المشكلة وآخرون يتصارعون معها قدر الإمكان حسب مستوى علاقاتهم بالدول الأخرى. منذ أشهر طويلة لا تزال تونس، على سبيل المثال، تجد نفسها مضطرة إلى تحمّل وزر الهجرة غير النظامية من بلدان جنوب الصحراء. هذه الظاهرة ناتجة إلى حد كبير عن حالة القحط والجفاف التي دمرت أنشطة الزراعة والرعي في منطقة الساحل والصحراء ودفعت بالسكان إلى المغامرة بحياتهم من أجل عبور الحدود نحو شمال القارة ولو بصفة غير قانونية.
الغريب في الأمر هو أن المشكل الذي يشكل موضوع جدل محتدم في أوروبا ليس مشكلا يبدأ في تونس وينتهي داخل حدودها. بل هو مشكل يهم كل بلدان شمال أفريقيا من مصر إلى المغرب مرورا بليبيا والجزائر وموريتانيا والسودان. ولكن كل دولة تتفاوض لوحدها مع الاتحاد الأوروبي. في المقابل تجمع البلدان الأوروبية، خلافا لبلدان المنطقة، آليات عدة لمواجهة الهجرة غير النظامية وهي تشمل كل مؤسسات الاتحاد الأوروبي والأجهزة المتفرعة عنها. تجمع بلدان الاتحاد الأوروبي كذلك رغبة غير معلنة في تجاهل جذور المشكلة ومن بينها بعدها المناخي والتصرف وكأن الأمر يتعلق بمسألة أمنية لا علاقة لها بالأضرار التي ألحقها التغير المناخي بالاقتصاديات والمجتمعات الأفريقية جنوب الصحراء. وعندما تفشل المقاربات الأمنية والعسكرية فهي تعالج المشكلة بدفع الاعتمادات المالية الهزيلة للبلدان الأفريقية حتى تمنع سلطاتها مواطني هذه البلدان من تجاوز الحدود ومحاولة عبور المتوسط نحو أوروبا. يتناسى الاتحاد الأوروبي في الأثناء علاقة هذه الظاهرة بالتغير المناخي لمّا يتعلق الأمر بأفريقيا. ولكنه يجهز الترتيبات والاحتياطات اللازمة لمواجهة حالات الطوارئ، بما فيها حالات الكوارث المناخية، داخل حدود القارة الأوروبية. وقد أنشأ الاتحاد الأوروبي منذ 2001 “الآلية الأوروبية للحماية المدنية” بهدف تعزيز التعاون بين مختلف البلدان الأعضاء من أجل تنسيق وتفعيل جهود التصدي للكوارث والاستعداد لها.
وخلال السنة الماضية فقط تدخلت هذه الآلية أكثر من مئة مرة لتنسيق الجهود الإنسانية في أوكرانيا ومجابهة الحرائق في أوروبا. في المقابل غابت الآليات المشتركة لمجابهة الكوارث والطوارئ في المنطقة العربية، وكأنما بلدانها بمعزل عن تغيرات المناخ ونزواته المدمرة. الدرس العاجل من أوروبا بالنسبة إلى المنطقة العربية هو أن مواجهة الطوارئ بما فيها الكوارث المناخية لا تتم في نطاق الارتجال والانكفاء بل باعتماد الآليات الناجعة المبنية على أساس تكتل الصفوف والوعي بالأخطار البيئية المشتركة والقادمة على عجل. والمأمول أن يمهد مؤتمر “كوب 28” السبيل أمام مسار عربي مماثل. فالتحديات المناخية تدق على أبواب المنطقة ومعها حرائق وأعاصير وفيضانات وجحافل من النازحين والمهاجرين لا مجال لتجاهلها أو التعامل معها لمّا تحدث على أنها قدر محتوم.
المصدر: العرب
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر