الكيمياء والتاريخ | مركز سمت للدراسات

الكيمياء والتاريخ

التاريخ والوقت : الجمعة, 21 يونيو 2024

يحيى زكي

تتعدد الآن مداخل قراءة التاريخ، والتي يحاول كل منها اكتشاف عامل حاسم في سير الأحداث، ولعّل من أحدث تلك المداخل ما يرصده بني لوكوتور وجاي بورسون في كتابهما “أزرار نابليون”؛ حيث يتتبعان دور الكيمياء الحيوي والمفصلي في وقائع تاريخية عدة.

ويبدأ الكتاب بمقدمة مستوحاة من عنوانه، فجيش نابليون هلك معظمه في غزو روسيا نتيجة لتعرض أزرار ملابس الجنود المصنوعة من القصدير إلى البرودة الشديدة، ما أدى إلى تآكلها، هنا لم يجد الجنود ما يقيهم البرد فتعرضوا للموت. يدخل الكتاب بعد ذلك في شرح التفاعلات الكيميائية التي يؤثر من خلالها البرد بالسلب في القصدير، ولا يتوقف الرصد عند هذه الحادثة وحسب، بل يسرد المؤلفان حوادث أخرى تتعلق بالسكر والتوابل وأمراض البحر.. إلخ.

يُلاحظ في هذا الكتاب وغيره، ذلك الفقر الشديد في الموارد التي كانت القارة الأوروبية تعانيه، فالسكر والتوابل والقطن والحرير، فضلاً عن محاصيل مختلفة لم تكن موجودة في القارة العجوز، وعندما بدأ السباق الاستعماري، وجدنا ذلك التنافس الشديد على تلك الموارد. إنه تنافس شهد عشرات الحروب وآلاف الرحلات البحرية وتأسيس شركات كبرى، بل قرأنا في هذا السياق عن ملك التوابل وإمبراطورية السكر.

في هذا التاريخ بإمكاننا أن نطالع أشياء غريبة تدعو للتوقف، نعلم مثلاً أن الهولنديين تركوا “نيو أمستردام”، نيويورك في ما بعد، للإنجليز مقابل إحدى الجزر المشهورة بزراعة جوزة الطيب، وهنا ربما نلاحظ مرة أخرى أن بلدين مثل هولندا والبرتغال، وكانا من أفقر بلدان العالم في الموارد، شكّلا قوى استعمارية مبكرة سبقا بها إنجلترا وفرنسا.

نعود مرة أخرى إلى العنصر المؤثر في مسار حركة التاريخ، والذي لا بدّ أن يفكر فيه أي شغوف بذلك العلم، ففي السنوات الأخيرة بتنا نقرأ عن دور المناخ أو المجاعات والأوبئة أو الطفرات السكانية، وهناك حتى من تحدث عن دور الصدفة والغباء في تغيير مسار الحدث، والمتابع لكل هذه الأفكار وتوقيت صدورها ورواجها يكتشف أنها انتشرت في أعقاب الإعلان في حقبة التسعينات من القرن الماضي عن موت الأفكار الكبرى، وهو إعلان تزامن مع حزمة تغيرات سياسية، منها انهيار المعسكر الاشتراكي، وصعود العولمة ومتلازماتها من نيوليبرالية وتكنولوجيا حديثة؛ حيث لم يعد المطلوب تغييب أي فكرة كبرى قد تؤثر وتغير في الراهن، ولكن أيضاً لا بد من أن تختفي هذه الفكرة من الماضي.

ظل كتّاب التاريخ على مدى قرون يرصدون الأحداث بأسلوب حولي عاماً يتلو الآخر، وكانت البطولة في الوقائع للفرد: الزعيم أو القائد أو المصلح.. وذلك حتى منتصف القرن التاسع عشر، عندما منحت الماركسية البطولة في التاريخ للعامل الاقتصادي، وانتشرت هذه الرؤية حتى بين معارضي الماركسية، ولم يعد هناك من يتجاهل العوامل المادية وأثرها في حراك المجتمع وسير التاريخ، وفي بداية القرن العشرين نشأت مدرسة التاريخ الجديد التي بحثت عن عوامل أخرى محركة للوقائع، وظلت أطروحاتها محدودة الانتشار حتى سقوط المعسكر الاشتراكي وهيمنة رؤى قطب أوحد ليس على العالم وحسب، ولكن على التاريخ أيضاً.

المصدر: الخليج

النشرة البريدية

سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!

تابعونا على

تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر