القوة هي أساس العلاقات الدولية، وبها تتشكل التحالفات والنظام الدولي. فمعيار تصنيف النظام، أكان أحادياً أم ثنائياً، أو متعدد الأقطاب، يقوم بناء على توزيعات القوة بين الدول، ويتأسس هذا النظام بناء على الأكثر قوة، والأكثر تأثيراً، وتحكّماً في القرار، والسياسة الدولية، وفي السلوك السياسي، إضافة إلى الفواعل الأخرى.
ثم إن القوة ليست حالة ثابتة، بل متغيرة، ونسبية. وهذا ما يفسر لنا التحولات التي تطرأ على خريطة التحالفات، الإقليمية والدولية، الجديدة. والقوة في أبسط معانيها تعني القدرة على التأثير في سلوك الآخرين، أي في الفاعلين الدوليين، أو في قضية، أو قضايا معينة، والتحكم في آليات الصراعات والنزاعات الدولية. إن القوة هي قدرة فاعل على دفع فاعل آخر أن يفعل الفعل، أو لا يفعل. وفي هذا السياق فإن القوة غاية، ووسيلة لتحقيق الأهداف العليا للدولة، وهي أُس نظرية الواقعية المفسرة للعلاقات الدولية. وقد ارتبطت بظهور الدولة القومية عام 1648 كفاعل رئيس للعلاقات. والقوة تفسر لنا الحرب والسلام، وكل الظواهر الدولية. والقوة تتشكل من عناصر عدة، تتفاوت بين الدول، كالمساحة الجغرافية، والسكان، والموارد الاقتصادية والطبيعية، ومنظومة القيم، والثقافة، والعقيدة، وأساسها القوة العسكرية، والاقتصادية، والتكنولوجية، وما يعرف اليوم بالقوة الناعمة، ثم قوة المؤسسات السياسية، ورؤية القيادة.
كل الدول تملك قدراً من القوة التي تمنحها التأثير في خريطة التفاعلات الدولية. وبناء على القوة يتم تقسيم الدول على سلم القوة، من دول عظمى، ودول كبرى، ودول مؤثرة، ودول متوسطة، وفي نهاية السلّم تقع الدول الصغرى.
هذا التقسيم التقليدي لم يعد ثابتاً، بل صار متحولاً، حتى بالنسبة إلى الدول الصغرى من حيث معايير المساحة والسكان، إذ يمكن أن تكون دولاً مؤثرة من منظور القوة الناعمة، والقوة الاقتصادية، ومثال على ذلك دولة الإمارات العربية المتحدة، ودولة قطر، فهما من الدول الأكثر تأثيراً في القرار الدولي، إلى جانب القوة الاقتصادية والقوة الناعمة.
ولو نظرنا إلى خريطة القوة الدولية لرأينا الولايات المتحدة، والصين، وروسيا، فهي من الدول الكبرى التي تملك القوة بكل عناصرها، من عسكرية، واقتصادية، ومالية، ودبلوماسية، ودولية، وإقليمية.
وتحتفظ منطقة الشرق الأوسط بأهميتها التاريخية كأحد أهم المناطق الجيوسياسية في العالم التي يتشكل من خلالها النظام الدولي، وبنية القوة، وتفسر لنا التحولات في القوة الإقليمية والدولية، والصراعات، والحروب، والتنافسات بين القوى في المنطقة.
واليوم، فإن منطقة الشرق الأوسط لم تعد كما كانت في السابق من المناطق التابعة، والمقسمة بين دول القوة والنفوذ، إقليمياً ودولياً. فتنامي قوة دول المنطقة، وامتلاكها لعناصر القوة الشاملة من السمات البارزة للشرق الأوسط الجديد. فنلاحظ لها دوراً مؤثراً، وفاعلاً ليس على مستوى المنطقة فقط، بل على مستوى القرار، الإقليمي والدولي. ومن المتغيرات الواضحة، يبرز تراجع في الدور الأمريكي، مع تصاعد وتنامي قوة الصين، وما المنتدى الصيني- العربي الذي عقد أخيراً، في بكين، إلا علامة على هذا التراجع لمصلحة الصين. كذلك هناك تغيّر في خريطة التفاعلات والتحالفات الدولية. ففي السابق كانت المنطقة إحدى أهم المناطق المغلقة للاستراتيجية الأمريكية، واليوم نشهد إعادة رسم الخريطة السياسية للمنطقة بدور أكبر لفاعليها من الدول العربية، والتي تسعى لملء فراغ القوة الذي عانته في مراحل تاريخية ممتدة. ولعل المنطقة العربية من أكثر المناطق العالم تعرضاً للتغيرات والتحديات، الداخلية والخارجيةن بحكم أهميتها الإستراتيجية، والنفطية، والماليةن والأمنية، فمن يسيطر عليها يسيطر على القوة في إقليمه. وهذا يفسر لنا تنافس القوى الإقليمية مثل إيران، وتركيا، على كسب مزيد من مناطق النفوذ فيها. ومن أبرز التحديات تراجع دور الدولة الوطنية المركزية القادرة علي بسط سيادتها، وسيطرتها على حدودها، والأمثلة كثيرة بدءاً من اليمن، وليبيا، والعراق، وسوريا، إضافة إلى تحديات المناخ، والتصحر، والهجرة، التي ثؤثر في الأوضاع الداخلية سلباً.
واليوم تشكل الحرب الإسرائيلية على غزة واحدة من أكبر التحديات التي قد تترتب على تداعياتها إعادة رسم الخريطة السياسية وشكل التحالفات في المنطقة.
إن ارتباط أمن المنطقة، واكتمالها، يكون بالقبول بالدولة الفلسطينية التي يشكل قيامها استئصال الكثير من الأسباب التي تقف وراء التنافس الإقليمي، وتضع حدّاً للصراعات، والحروب المتواصلة.
ويبقى أن الدولة الفلسطينية قد تشكل المفتاح لمستقبل المنطقة، وتحديد خياراتها بين الأمن، والسلام، والاستقرار، وبين خيار الحرب الشاملة.
المصدر: الخليج