تحيل السياسة إلى التنظيم وامتلاك القوة، فمحورها هو السلطة كآلية للتنظيم الاجتماعي، كما تتصل أيضاً بمختلف السبل المرتبطة بقيادة وتدبير شؤون المجتمع، وهناك من يعتبرها فنّ الممكن.
أما الأخلاق فهي بمثابة قيم وقواعد سلوكية تؤمن بها جماعة من الناس، ويربطها الفلاسفة بنظرية المثل الأعلى، وتتباين الرؤية الأخلاقية من شخص لآخر، كما هي من مجتمع لآخر.
وقد أثارت العلاقة بين المفهومين (الأخلاق والسياسة) على المستويين، الداخلي والدولي، نقاشات فكرية وجدالات فلسفية، تأرجحت بين التأكيد على علاقة المدّ تارة بينهما، والجزر تارة أخرى.
على المستوى الدولي، انتعشت المدرسة المثالية كاتجاه معرفي لتفسير العلاقات الدولية، وللتنظير في هذا الحقل، من منظور لا يخلو من مسحة طوباوية، فهي تنطلق من مسلّمات دينية وأخلاقية وفلسفية، كما تحيل إلى التصور الذي يطرح الكيفية التي ينبغي أن تكون عليها سلوكات الفاعلين الدوليين.
وقد ظل هذا الاتجاه مهيمناً خلال فترة ما بين الحربين العالميتين، الأولى والثانية، حيث أكد رواده أهمية العقل والأعراف، ومختلف المؤسسات الدولية في منع الحروب والمنازعات، ورفضوا سياسة الأمر الواقع.
غير أن الكثير من أفكار هذا الاتجاه ستتحطم تحت صدمة الحرب العالمية الثانية، التي فتحت الباب واسعاً أمام المدرسة الواقعية التي بدأت تنظر للعلاقات الدولية “كما هي”، وليس منظور “كما ينبغي أن تكون”.
كما أن قواعد القانون الدولي التي تستمد بعض مقوماتها ومبادئها من الأخلاق، والدين، والثقافة، تحكم العلاقات القائمة بين الفاعلين الدوليين خلال فترة السلم، وتؤطّر علاقات الصراع، والحرب في حال نشوبها حتى لا تكون تداعياتها أكثر سوءاً، وهي تجسيد للواقع الدولي بتوازناته، ولطبيعة العلاقات بتناقضاتها.
فعلى عكس القانون الداخلي الذي يخاطب الأفراد المتساوين في الحقوق والواجبات وفي الإرادة، يرتبط القانون الدولي في جزء كبير منه بحسن نيّة الدول باعتبارها صاحبة سيادة، لذلك يؤكد باحثون مثالية القانون الدولي، اعتباراً لكونه لا يستند إلى هيئة تشريعية، أو آليات صارمة تضمن إلزاميته في مواجهة كل الدول.
وتشير الممارسات الدولية أيضاً إلى الإشكالات والصعوبات التي تحول دون تحقّق صفة العمومية والتجريد في هذا القانون، ذلك أن عدداً من قرارات مجلس الأمن تستند إلى تكييف متناقض وانتقائي لمقتضيات الفصل 39 بحسب الحالات، وغالباً ما يخضع لموازين القوى.
وقد مثّل التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا امتحاناً حقيقياً، كشف عن عجز رهيب في أداء مجلس الأمن، الذي يبدو أنه يتعامل مع النزاعات والخروقات الدولية بمنطقين مختلفين، فعلى عكس الدول الضعيفة التي غالباً ما يتحرك بصرامة لمواجهة الاعتداءات والخروقات التي تتورط فيها، فإن الأمر يكون مختلفاً عندما يتعلق الأمر بسلوكات مماثلة، تقوم بها دول عظمى، أو دول ترعاها دول عظمى.
وباسم ممارسة “حق الدفاع الشرعي” تقوم إسرائيل بارتكاب جرائم خطرة تندرج ضمن إرهاب الدولة، والإبادة الجماعية، والتهجير، والتجويع، داخل قطاع غزة، يقابلها صمت رهيب للمؤسسات المعنية بحفظ السلم والأمن الدوليين.
وكثيراً ما أسهمت المؤسسات الاقتصادية التي تتحدث باسم تحقيق التنسيق الاقتصادي بين الدول، ومساعدتها على تجاوز أزماتها الاقتصادية والمالية، في تعميق الجراح الاقتصادية للدول الفقيرة، عبر إثقالها بالديون والشروط المجحفة، فيما غدت المؤسسات القضائية الدولية بلا سلطات فعلية، بل إنها كرّست في عدد من المناسبات عدالة الأقوى.
على سبيل المثال، خلّفت العقوبات التي يتخذها مجلس الأمن بناء على الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، آثاراً إنسانية كارثية في عدد من الحالات، كما هو الأمر بالنسبة إلى العراق، وليبيا، والسودان، وهايتي، فيما طرحت أسئلة عديدة حول مدى أخلاقية التدخل العسكري لحماية حقوق الإنسان ضمن خروقات سيادة الدول.
من جانب آخر، يطرح موضوع الهجرة القسرية وغير النظامية الكثير من الأسئلة، حيث ظلت تداعياتهما الإنسانية مغيبة على حساب الاعتبارات الأمنية، ضمن أجندة الدول الكبرى، التي سعت إلى بسط الجدران، ووضع تشريعات صارمة في هذا الخصوص، من دون اهتمام كاف بالمعاناة والإشكالات العميقة التي تخلّفها مثل هذه الظاهرة، ضمن تنكّر واضح لعدد من المواثيق والاتفاقيات الدولية ذات الصلة.
تطرح علاقة السياسي والأخلاقي بحدّة في العلاقات الدولية، مع تزايد الانحرافات والخروقات التي تطال مبادئ القانون الدولي، من حيث تكريس الفوضى، وتهميش الآليات الدولية لتسوية المنازعات والأزمات، وبروز مفاهيم “قانون القوة” في مقابل “قوة القانون”، و”الكيل بمكيالين” في مقابل المساواة في السيادة. ومهما كانت مشروعية وعدالة الأهداف المتوخاة، لا ينبغي تحقيقها بوسائل غير مشروعة أو لا إنسانية، لأن من شأن ذلك إفراغ هذه الأهداف من نبلها ومشروعيتها، بل ويقلل من أهمية وإلزامية القوانين الدولية.
إن التعايش بين الأخلاق والسياسة لا يمكن أن يتأتّى مع مظاهر الهيمنة، وقانون القوة الذي نراه اليوم على أكثر من صعيد، ولذلك فهناك حاجة ماسة إلى ضبط تناقضات القانون الدولي والانحرافات التي تطبع تطبيقاته، عبر تطوير مقتضياته وتجاوز الفراغ والغموض اللذين يطبعان بعض قواعده.
وكذلك الأمر بالنسبة إلى الآليات المعنية بتطبيقاته أيضاً، تماشياً مع المتغيرات الدولية المتسارعة، كما يمكن لتعزيز الممارسة الديمقراطية عبر العالم، أن يوفر المناخ الكفيل لتطبيق القانون الدولي على وجه سليم.
المصدر: الخليج