سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
من تعديل الاستراتيجية العسكرية إلى إعادة تكوين الدبلوماسية، سيضحى الذكاء الاصطناعي عنصراً حاسماً ومقرراً لنظام العالم. وبسبب نأيه عن الخوف والتفضيلات سيدخل الذكاء الاصطناعي إمكانية جديدة للموضوعية في صنع القرار الاستراتيجي. وفي المقابل، إن تلك الموضوعية التي سيتمرس بترويضها المحاربون وصناع السلام يجب أن تحافظ على الذاتية الإنسانية التي تشكل عنصراً أساساً في التطبيق المسؤول لممارسات القوة. وسيلقي الذكاء الاصطناعي الضوء على أفضل التعبيرات عن الإنسانية وأشدها رداءة أيضاً. وسيغدو وسيلة لإشعال الحروب وإنهائها.
وخاضت الإنسانية صراعاً مديداً من أجل إعادة صياغة نفسها على هيئة ترتيبات متزايدة التعقيد، تهدف إلى عدم امتلاك أية دولة الهيمنة المطلقة على الأخريات. وتوصلت الإنسانية إلى تحقيق وضعية تتخذ فيها تلك الترتيبات صورة القانون الطبيعي المستمر. وفي عالم لا تزال الأطراف الفاعلة الأساس فيه مكونة من بشر، حتى لو تجهزوا بالذكاء الاصطناعي كي يعطيهم المعلومات والاستشارة والنصح، يجب على الدول فيه حيازة درجة ما من الاستقرار المستند إلى معايير مشتركة في التصرف تخضع باستمرار إلى التغيير والتعديل مع مسار الزمن.
وفي المقابل، إذا صعد نجم الذكاء الاصطناعي واتخذ عملياً هيئة مجموعة من الكيانات المستقلة سياسياً ودبلوماسياً وعسكرياً، فلسوف يفرض أن يزول توازن القوى الراسخ منذ آجال طويلة، لمصلحة نظام جديد من الاضطراب غير المعروف الملامح. ولقد صمدت المنظومة العالمية للدول، الأمم مع ما تتضمنه من توازن دقيق ومتبدل أرسيت دعائمه عبر القرون القليلة الماضية. ويرجع الفضل في ذلك جزئياً إلى التساوي الأصيل بين الأطراف الفاعلة في تلك المنظومة.
وفي المقابل، إذا استطاعت بعض الدول مثلاً أن تتبنى ذكاء اصطناعياً من مستويات فائقة التقدم بسرعة تفوق الأخريات، فسينبثق عالم من الاختلال في التساوي والتناظر تسوده درجة عالية من الفوضى وانعدام القدرة على توقع الأشياء. وفي حالات قد يتواجه فيها بعض البشر مع دولة مزودة بقدرات عالية من الذكاء الاصطناعي، أو ضد ذلك الأخير بنفسه فلسيغدو مصير البشر هو مجرد السعي إلى الاستمرار على قيد الحياة بأكثر من سعيهم إلى المنافسة معها، وبأشواط كثيرة. ولربما شهد ذلك النظام الانتقالي انهياراً داخلياً للمجتمعات، وانفجاراً منفلتاً للنزاعات الخارجية.
وثمة وفرة في الاحتمالات الممكنة. وبأبعد من السعي إلى الأمن، خاض البشر عبر أزمنة مديدة حروباً من أجل الانتصار أو الدفاع عن الشرف. وفي اللحظة الراهنة، تبدو الآلات الذكية نائية بنفسها عن أي مفهوم للانتصار أو الشرف. إنها قد لا تذهب إلى الحرب، بل قد تختار مثلاً تقاسماً وتبادلاً فورياً للأراضي، بالاستناد إلى حسابات معقدة. ولربما مالت إلى أفعال تتصاعد إلى حروب دامية من الإنهاك الإنساني، عبر مكافأتها للمخرجات على حساب أولوية أرواح الأفراد. وفي أحد تلك السيناريوهات قد يتطور نوعنا الإنساني ويتبدل إلى حال من التجنب المطلق للوحشية في السلوك الإنساني. وفي سيناريو آخر قد نخضع للتكنولوجيا إلى حد أنها قد تقودنا رجوعاً إلى ماضينا البربري.
إشكالية أمن الذكاء الاصطناعي
باتت دول كثيرة تحصر تفكيرها في كيفية “ربح سباق الذكاء الاصطناعي”. وبصورة جزئية، من المستطاع تفهم ذلك الاندفاع. وقد تواطأت الثقافة والتاريخ والاتصالات ومناظير الرؤى على تكوين وضعية دبلوماسية بين القوى الكبرى حاضراً من شأنها تعزيز الريبة وانعدام الأمن لدى الجهات كلها. ويعتقد القادة أن تحقيق تفوق تكتيكي تراكمي قد يصبح حاسماً في صراعات المستقبل، ويعتقدون أن الذكاء الاصطناعي قد يمنحهم ذلك التفوق.
إذا رغبت كل دولة في تعظيم مكانتها إلى الحد الأقصى، فسيمهد ذلك لأوضاع تسودها سيكولوجيا التنافس بين القوى العسكرية المتخاصمة، وكذلك الحال بالنسبة إلى وكالات الاستخبارات، إلى حدود لم تواجهها الإنسانية في تاريخها. إن الرغبة المنطقية الأولى التي ستتملك أي طرف إنساني فاعل لدى حيازته الذكاء الاصطناعي الخارق، الذي يعني نظرياً نوعاً من ذكاء الآلات يفوق نظيره البشري، ربما تمثلت في ضمان ألا يتوصل أي شخص آخر إلى تلك النسخة المتطورة من التكنولوجيا. من ثم، فإن ذلك الطرف الفاعل قد يفترض بصورة منطقية استطرادية أن خصمها يتفكر في تحرك مماثل [أي منع الآخرين من امتلاك التكنولوجيا الخارقة الذكاء]، باعتبار أنه يتحرك أيضاً بتأثير المستوى نفسه من التشكك، ويلقي برهاناته على المحك نفسه أيضاً.
وتحت تلك الظلال، قد لا يخوض الذكاء الاصطناعي الخارق حروباً، لكنه قد يزعزع ويحدث القلاقل ويخرب ويصد، كل برنامج مشابه له. ومثلاً، يعد الذكاء الاصطناعي بتعزيز فيروسات الكمبيوتر التقليدية بضخ قوة غير مسبوقة فيها، مع تمويهها بصورة دقيقة. وهناك سابقة مثلتها دودة الكمبيوتر المسماة “ستاكسنت” Stuxnet السلاح السيبراني الذي جرى الكشف عنه عام 2010 الذي يعتقد أنه خرب خمس آلات الطرد المركزي لتخصيب اليورانيوم في إيران. وعلى غرارها قد يعمل عنصر من الذكاء الاصطناعي على تخريب التقدم الذي يحرز خصمه بطرق مموهة، مما سيجبر العلماء عند عدوه على مطاردة الأشباح. ومع تمتعه بقدرة متفردة في التلاعب بالضعف في نفسية الإنسان قد يتوصل الذكاء الاصطناعي إلى اختراق الإعلام الوطني لمنافسه، ثم يسخره في إنتاج فيوض مضللة من المعلومات التركيبية synthetic disinformation [أي التي يخترعها ذكاء الآلات من دون أن توازيها معطيات فعلية بالضرورة]، كي يلهم ويستحث معارضة شعبية تناهض مضي ذلك البلد قدماً في تطوير قدرات الذكاء الاصطناعي لديها.
وسيصعب على بلدان عدة التيقن من موقعها الفعلي في سباق الذكاء الاصطناعي، بالمقارنة مع آخرين. وفعلياً، يجري تدريب النماذج الكبرى من الذكاء الاصطناعي على شبكات مأمونة ومحمية ومعزولة عن بقية الإنترنت.
ويعتقد بعض المسؤولين التنفيذيين أن تطور الذكاء الاصطناعي بحد ذاته سيفرض عاجلاً أو آجلاً، انتقاله إلى تحصينات تستعصي على الاختراق، وتضم كمبيوترات خارقة تعمل بالطاقة المولدة من مفاعلات نووية. وحتى في اللحظة الحاضرة يجري بناء مراكز حفظ بيانات في قيعان المحيطات. وبعد فترة وجيزة قد يذهب بها إلى مدارات حول الأرض. من ثم، قد تلجأ مؤسسات أو بلدان إلى أسلوب “الذهاب إلى الظلام”، فتتوقف عن نشر بحوثها في الذكاء الاصطناعي كي تحرم منها الأطراف الفاعلة الشريرة، وكذلك كي تموه على الإيقاع الفعلي ما تعمل على تطويره. وبغية تقديم صورة محرفة عن حقيقة تقدمها، قد تعمد أطراف فاعلة أخرى إلى نشر بحوث مضللة مع استعمال الذكاء الاصطناعي في تكوين فبركات مقنعة في شأنها.
في الحرب، سيلقي الذكاء الاصطناعي الضوء على أفضل التعبيرات عن الإنسانية وأشدها رداءة أيضاً
وثمة سابقة عن ذلك التضليل العلمي. وخلال عام 1942 استنتج عالم الفيزياء السوفياتي غريغوري فليوروف بصواب أن الولايات المتحدة تبني قنبلة نووية، بعد ملاحظته أن الأميركيين والبريطانيين توقفوا فجأة عن نشر أوراق بحثية علمية عن الانشطار الذري. وحاضراً، قد يؤدي تنافس مماثل في الذكاء الاصطناعي إلى زيادة عدم القدرة على التوقع، إذا أخذ بعين الاعتبار مستويات التعقيد والغموض في مجال قياس التقدم المحرز نحو شيء غير ملموس ويشكل تجريداً فكرياً، على غرار الذكاء. وقد يتراءى للبعض فائدة في الرهان على حجم نماذج الذكاء الاصطناعي التي بحوزتهم، لكن النموذج الأكبر لا يتفوق بالضرورة في كل السياقات، وقد لا يستطيع دوماً الانتصار على نماذج أصغر لكنها تستعمل مع انتشار أعداد كبيرة منها. وقد تعمل آلات للذكاء الاصطناعي تكون أصغر وأكثر تخصصاً، على طريقة تعامل أسراب المسيرات مع حاملة طائرات، بمعنى أنها قد لا تدمرها لكنها تكفي لتحييدها.
وربما اعتبر طرف فاعل معين بوصفه ممتلكاً لأفضلية شاملة حينما يتعلق الأمر بعرض إنجاز ما في قدرات معينة. ولكن، ثمة مشكلة في هذا النمط من التفكير يتمثل في أن الذكاء الاصطناعي يشير بالكاد إلى عملية من تعلم الآلات المنبثة في مروحة واسعة من التقنيات. من ثم، إن القدرة التي قد تظهر في حقل معين قد تسير بدفع من عوامل متباينة كلياً مع قدرة أخرى تعمل في مجال آخر. وفي ذلك المعنى، إن أي “أفضلية” يجري احتسابها بصورة اعتيادية قد تكون متوهمة.
واستدراكاً، وفق ما تبين في تفجر قدرات الذكاء الاصطناعي على نحو غير مسبوق من التصاعد بمتواليات هندسية وقفزات نوعية خلال الأعوام الأخيرة، من المستطاع استنتاج أن مسار التقدم في تلك التقنية ليس خطياً [ليس على غرار الأعداد المتوالية وترابطاتها] ولا قابل للتوقع. وحتى لو نظر إلى لاعب فاعل بعينه باعتباره في موقع “القيادة” بالمقارنة مع آخر، وبعدد تقريبي من الأعوام أو الأشهر، فلربما حدث اختراق تقني أو نظري مفاجئ في مساحة محورية وأثناء لحظة حاسمة، قد يقلب مواقع الأطراف الفاعلة كلها.
وفي عالم كهذا، لا يستطيع القادة الوثوق بأشد الاستخبارات صلابة، ولا بغرائزهم الأولية والبدائية، ولا حتى بأسس الحقيقة نفسها. من ثم، ليس بالمستطاع إلقاء الملامة على الحكومات التي تتصرف من موقع الريبة القصوى والبارانويا المتطرفة. ولا شك في أن القادة شرعوا بالفعل باتخاذ قرارات بموجب افتراض أن مجهوداتهم تحت المراقبة، أو أنها مثقلة بحقائق مشوهة تكونت في ظل تأثير خبيث.
ومع تحول التفكير بالسيناريوهات الأسوأ إلى بديهة مسبقة، تجبر الحسابات الاستراتيجية لأي طرف فاعل وصل إلى موقع متقدم على إعطاء الأولوية إلى السرعة والسرية، على حساب الأمان. وقد يقع قادة البشر في قبضة الخوف من أنه لا يوجد شيء اسمه المكانة الثانية. وتحت تلك الضغوط قد يعمدون إلى تسريع غير ناضج لتوظيف الذكاء الاصطناعي كأداة ردع ضد التخريب الآتي من الخارج.
نموذج فكري آخر للحرب
على مدار معظم تاريخ البشر، خيضت الحروب في مكان محدد ومعرف يتمكن المرء من التوصل إلى يقين منطقي في شأن قدرات ومواقع القوى العدوانية للخصم. وقد عمل مزيج المعطيين السابقين [القدرة والموقع للطرف الآخر] على إعطاء كل طرف إحساساً بالأمن النفسي والتوافق العمومي، مما أتاح المجال بالتالي أمام التقييد المحسوب للفتك والموت. ولا تتوصل القوى المتصارعة إلى قرار حاسم في شأن ضرورة خوض الحرب أو الامتناع عن ذلك، إلا إذا امتلك قادة مستنيرون ما يجمعهم في شأن المفاهيم الأساس عن كيفية خوض القتال وضروراته.
واندرجت السرعة والتحرك ضمن العوامل الأكثر توقعاً في مساندة قدرات أية قطعة من المعدات العسكرية. ويبرز المدفع بوصفه أحد الأمثلة المبكرة عن ذلك. وعلى مدار ألف عام تلت ابتكاره، حمت الأسوار الثيودوسينية مدينة القسطنطينية العظيمة من الغزاة الخارجيين.
وفي عام 1452 اقترح مهندس مدفعية مجري على الإمبراطور قسطنطين السادس بناء مدفع عملاق كي يطلق من خلف الجدران ويكتوي بنيرانه الأعداء. لكن الإمبراطور المتطامن رفض ذلك الاقتراح لأنه لم يمتلك المعدات اللازمة، وافتقد رؤية مستقبلية حيال دلالة تلك التقنية.
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر