التقارب التركي السوري | مركز سمت للدراسات

التقارب التركي السوري

التاريخ والوقت : الأحد, 12 مارس 2023

محمد بن خالد العصيمي

 

المقدمة 

مع أنباء عودة العلاقات التركية السورية وبدعم روسي أسفر عن أول لقاء رسمي بين وزير الدفاع التركي مع نظيره وزير الدفاع السوري، يوم الأربعاء الموافق 28 ديسمبر 2022م، ومع تصريحات الرئيس أردوغان المؤيدة للقاء مع الرئيس بشار الأسد، التي تأتي بالقرب من موعد الانتخابات التركية، وزيادة ضغط المعارضة التركية على أردوغان، وتغيير تركيا لسياستها الخارجية منذ صيف 2022م، بالعودة إلى سياسة “صفر مشاكل” التي جرت مع عدد من الدول الإقليمية، مثل الإمارات ومصر، والتخلي عن قيادات تنظيم الإخوان المسلمين والقنوات الإعلامية التابعة لهم التي كانت تحت الرعاية التركية، ومع حاجة الدول الإقليمية والعالمية لتهدئة الأوضاع في سوريا وتفرغها لملفات أخرى، مثل: (الحرب الروسية الأوكرانية، والأزمات الاقتصادية، والمواجهة الأميركية الصينية) التي أحدثت تغيرات جيوسياسية في المنطقة، مع علمنا بأن الموقف في سوريا معقد جدًا بسبب تضارب المصالح بين الأطراف، وتحولها لساحة تسوية للنزاعات الدولية – بعد كل ذلك، هل نشهد حلاً للأزمة السورية، أم أنه سيتم تعليق الأزمة حتى الانتهاء من الملفات الأخرى؟! 

النظرة التاريخية للعلاقات السورية التركية 

تتسم العلاقات بين الجمهوريتين بانقلابات حادة من عداوة صريحة، إلى صداقة حميمة (2002)، إلى عداء مرة أخرى (منتصف 2011). 

منذ استقلال سوريا عام 1946م من فرنسا، كانت العلاقات متوترة – رغم أن سوريا للتوِّ نالت استقلالها – وذلك بسبب قضية “لواء إسكندرون” أو لاحقًا “محافظة هاتاي” التركية، التي ضمتها تركيا أيام الاحتلال الفرنسي لسوريا، من خلال استفتاء حدث عام 1939م، برغم من كون السكان ذوي الأصول التركية، أقلية ويشكلون أقل من 20% من نسبة سكان المحافظة. ويتهم السوريون تركيا بأنها قامت بتغيير ديموغرافي في تلك المنطقة وأن الاستفتاء غير موثوق به. 

تضاد المعسكر 

حدثت أزمة 1957م بعد توقيع سوريا اتفاقية صداقة مع الاتحاد السوفييتي في ذلك العام، مما أثار حفيظة دول المنطقة لتخويفها بأن سوريا تحولت إلى دولة شيوعية، وهددت الدول سوريا بالتدخل العسكري، بتحالف عربي غربي يضم العراق والولايات المتحدة وتركيا، إلا أن التحالف لم يتشكل ولم تقم أي دولة بنشر قواتها.

جعلت الاتفاقية تركيا محاصرة بين دول شبه شيوعية ودول غير صديقة، وادخل البلدان (تركيا وسوريا) في حرب باردة، متزامنة مع الحرب الباردة بين الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفييتي. وعند تأكد تركيا بأن سوريا تتجه إلى الشيوعية، نشرت قواتها على الحدود المشتركة، وقامت باختراق الأجواء السورية عدة مرات، وكان ذلك بدعم أميركي؛ ما جعل الاتحاد السوفييتي يهدد بالضرب بالقنبلة النووية إذا حدث أي تدخل عسكري في سوريا، وأرسلت فرقًا عسكرية إلى سوريا. وقامت مصر بقيادة عبدالناصر بإرسال قوات مصرية إلى ميناء اللاذقية لدعمها ضد العدوان المحتمل، مما جعل سوريا تدخل في وحدة عربية مع مصر عام 1958. وبذلك انتهت الأزمة بحرج دولي لتركيا وحدوث انقلاب 1960.

اتفاقية أضنة 

قامت تركيا في عام 1990م، بتحويل مياه نهر الفرات – يغذي نهر الفرات سوريا والعراق وهما (دول المصب)، بينما تركيا هي دولة المنبع – إلى سد أتاتورك لمدة شهر كامل، ما أدى إلى نقص في مستوى المياه في كل من العراق وسوريا، وقام حافظ الأسد – رئيس سوريا آنذاك – بالرد على الإجراء التركي بدعم حزب العمال الكردستاني الذي يصنف جماعة إرهابية في تركيا، والسماح له بإقامة نشاطات داخل سوريا؛ مما جعل تركيا توقع اتفاقية عام 1992م، التي كانت حبرًا على ورق؛ إذ استمر الدعم السوري للأكراد، ولم تتوقف المشاريع التركية في الفرات. واستضافت سوريا زعيم حزب العمال عبدالله أوجلان، وبعد تأكد تركيا من وجوده، نشرت أكثر من 10 آلاف مقاتل على الحدود المشتركة، وهددت باجتياح دمشق، وقامت باختراق الأجواء السورية لتأكيد عزمها وجديتها. إلى أن تدخلت إيران في الأزمة كوسيط وانتهت بتوقيع اتفاقية أضنة عام 1998، التي ألزمت حافظ الأسد بالتخلي عن دعم حزب العمال وتصنيفه جماعة إرهابية وطرد زعيمه من الأراضي السورية، وكذلك ألزمت سوريا بالتخلي عن مطالبتها بلواء إسكندرون، وسمحت لتركيا بالتدخل عسكريًا في الأراضي السورية بعمق 5 كيلومترات. ومن هنا بدأ تحول العلاقة إلى شكل ودي بين البلدين، حيث ارتفع عدد الاتفاقيات المبرمة بين الطرفين في جميع الاتجاهات، وتم تسليم 123 مطلوبًا إلى تركيا بين عامي 2003 و2009.

الأزمة السورية

حدثت الأزمة في بداية 2011 بالتزامن مع ما سمِّي بثورات الربيع العربي، حيث كانت سوريا هي البلد الخامس الذي اندلعت به الثورة. ومنذ بداية الأزمة السورية كانت تركيا تمارس دورًا محوريًا في النزاع، بل تعدت ذلك واتخذت موقف الوصاية على سوريا؛ إذ كانت تضغط على النظام السوري لإجراء إصلاحات وتنفيذ المطالب الشعبية في سوريا، واتخاذ موقف أقل حدة حيال المظاهرات. وكان الرئيس السوري يعد تركيا بتنفيذ تلك المطالب، دون إحراز أي تقدم فيها، حتى زادت حدة القمع إلى درجة عنيفة جدًا؛ فتغير موقف تركيا من الوقوف بجانب النظام إلى الوقوف مع الشعب.

وفي يونيو 2011 دعمت تركيا المنشقين من الجيش السوري العربي (التابع للنظام) بالتدريب والسلاح، لتكون من أكبر داعمي الجيش السوري الحر، هذا من الجانب العسكري. أمَّا من الجانب السياسي، فاستضافت عددًا كبيرًا من المعارضين للنظام، وأقامت عدة مؤتمرات من أهمها مؤتمر أصدقاء سوريا” في 1 أبريل 2012 بإسطنبول، الذي ضم أكثر من سبعين دولة، بهدف مناقشة تقديم الدعم للمعارضة وزيادة الضغط على النظام لقبول “خطة سلام كوفي أنان”، وحشدت العالم ضد النظام في حالة عدم قبوله الخطة وهذا ما حدث؛ مما تسبب في انهيار العلاقات بشكل كلي مع النظام، الذي بدأ بدعم حزب العمال الكردستاني مره أخرى، وأعاد فتح ملفات الحدود التي تطالب بلواء إسكندرون.

 أمَّا في الجانب الإنساني، فاستضافت تركيا عشرات الآلاف من اللاجئين السوريين منذ بداية موجة النزوح، وذلك وفقًا لسياسة الباب المفتوح التركية المتبعة مع السوريين.

دور تركيا العسكري في سوريا 

بعد إسقاط طائرة مقاتلة تابعة للقوات التركية في 22 يونيو 2012، كانت تحلق فوق مياه البحر المتوسط – حسب الرواية التركية – من قبل قوات الدفاع الجوي السوري، لاختراقها الأجواء السورية – حسب الرواية السورية – بدأت تركية تتهيأ لدخول عسكري في سوريا، وأقر البرلمان التركي في أكتوبر 2013 بتفويض الحكومة بالقيام بعمليات عسكرية في سوريا. لكن رغم التفويض، وتصريح أردوغان في 30 أغسطس 2013 الذي يقول فيه: “إن أي تدخل عسكري في سوريا يجب أن يهدف إلى إسقاط الرئيس السوري بشار الأسد”، وحدوث مناوشات حدودية بين الطرفين؛ لم يحدث تدخل عسكري صريح – كان هناك اتهامات لتركيا بدعم تنظيم الدولة (داعش) قبل إنشاء التحالف – إلا في 22 فبراير 2015، حيث دخل رتل عسكري تركي لحماية ونقل ضريح سليمان شاه الواقع في قرية قره قوزاق السورية بعد سيطرة تنظيم الدولة (داعش) عليها – يخضع الضريح للسيادة التركية لكن القرية تحت السيادة السورية – ليستقر في قرية أشمة السورية ذات الأغلبية الكردية. كان هذا أول احتلال وتدخل تركي في الأراضي السورية، وتبعه أربع عمليات مع توجس لعملية خامسة في الوقت الراهن. 

العمليات التركية: (انطلاق، هدف، نتائج)

انطلقت عملية درع الفرات في 26 أغسطس 2016 واستمرت لمدة 7 أشهر، وكان الهدف منها محاربة تنظيم (داعش) وإبعاد الأكراد عن الحدود وقطع الربط بين مقاطعات الإدارة الذاتية؛ ونتج منها سيطرة تركيا على مدينة جرابلس السورية امتدادًا إلى مدينة اعزاز.

انطلقت عملية غصن الزيتون في 20 يناير 2018، وكان الهدف منها قطع الإمدادات بين المقاطعات الخاضعة لسيطرة الأكراد وإنشاء منطقة آمنة؛ ونتج منها سيطرة تركيا على منطقة عفرين شمال حلب. 

انطلقت عملية نبع السلام في 9 أكتوبر 2019، وكان الهدف منها إعادة كل المنطقة التي يسيطر عليها الأكراد شمال شرقي سوريا بعد انسحاب أميركا والتحالف، وإنشاء منطقة آمنة على الحدود وطرد الأكراد منها؛ نتج منها سيطرة تركيا على تل أبيض ورأس العين.

انطلقت عملية المخلب – السيف في 20 نوفمبر 2022 وذلك بعد حادثة التفجير في إسطنبول 13 نوفمبر ،2022، واتهام تركيا حزب العمال الكردستاني بالتفجير. كانت العملية جوية ولم ينتج تغيير على الأرض، بل تثبيت لمناطق النفوذ فقط.

مطالب تركيا من التقارب 

تطالب تركيا وبشكل تاريخي بإنشاء منطقة آمنة على الحدود المشتركة، بحيث تضمن حماية حدودها من أعمال الحركات الكردية، وشل الحلم الكردي بإنشاء دولة مستقلة لهم. وكانت تركيا قد أقرت ذلك في “اتفاقية أضنة” التي تريد تعديل ما نصت عليه بشأن ما يتعلق بالمنطقة الآمنة بحيث تصبح 20- 30 كيلومترًا بدلاً من 5 كيلومترات في الداخل السوري. وهذا أيضًا تم إقراره في “اتفاق سوتشي” الذي من بنوده – لم يتم تنفيذ الكثير من البنود – إخلاء مناطق خفض التصعيد من السلاح، ونفذت “قسد” ذلك بسحب جميع الأسلحة الثقيلة من تلك المناطق. وترغب تركيا بإعادة اللاجئين السوريين “طوعيًا” – سواء في تركيا أو في العالم – إلى سوريا، وذلك بعد توفير بيئة آمنة لهم (بحسب وصف الحكومة التركية). وتطالب تركيا تعاون النظام معها ضد “قسد” بشكل عام، و”وحدات حماية الشعب الكردية” بشكل خاص.

مصالح ومطالب النظام السوري 

إن أكثر ما يشغل النظام مسألتان هما:

1- الحصول على اعتراف دولي بأنه هو الممثل الوحيد لسوريا مع إلغاء العقوبات المفروضة عليه دوليًا.

2- استعادة سيادته على جميع الأراضي السورية وحفظ وحدة الدولة في كيان واحد.

ويعتبر النظام المسألتين السابقتين أمرًا أساسيًا للدخول في مفاوضات مع أي دولة راغبة في إعادة العلاقات؛ لذا يطالب تركيا بإنهاء احتلالها للأراضي السورية قبل كل شيء. وأكد ذلك تصريح وزير الخارجية السوري فيصل مقداد، الذي وضع شروطًا قبل بدء المفاوضات (وصفها بأنها مقدمة وليست شروطًا) وهي: 

 1- انسحاب القوات التركية المحتلة.

2- التوقف عن دعم المجموعات المسلحة.

3- عدم التدخل في الشؤون الداخلية.

ووصف أن من المبادئ التركية مبدأ الإرهاب ويجب تغيير هذا المبدأ. وشدد على ألا يكون إرهاب في تركيا ولا في سوريا، وأن أي خلل في هذه المعادلة سيضر أحد الطرفين. وهنا يشير إلى القوات الكردية التي يدعمها تارة، ويقاتلها تارة أخرى. وأشار إلى إنهاء دعم المعارضة السورية التي تعتبر تركيا الداعم الوحيد لها في الوقت الحالي. 

ومن مصلحة النظام فك العزلة الدولية المفروضة عليه منذ اندلاع الحرب الأهلية السورية، ورغم عودة علاقاته مع دولة الإمارات في 2019م، فإن إعادة علاقاته بتركيا ستكون ذات ثقل أكبر، وهو ما يسعى إليه كل من الإمارات وروسيا. 

مخاوف المعارضة السورية 

انطلقت مظاهرات للمعارضة السورية احتجاجًا على التقارب المحتمل في شمال غرب سوريا، وهي مناطق خاضعة للسيطرة التركية. وتسيطر فصائل المعارضة الموالية لتركيا على مناطق ريف حلب الشمالي والشرقي وريف الرقة الشمالي والحسكة الغربي. وتسيطر هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقًا) على مدينة إدلب وريفها الغربي. وأتت مخاوف المعارضة السورية السياسية المقيمة في تركيا من أن يشابه مصيرها مصير “الإخوان” بعد التقارب المصري التركي؛ إذ إن تركيا كانت الداعم الأول والأب الروحي “للإخوان المسلمين”، إضافة إلى التطابق الأيديولوجي الذي يجمع بينهم؛ غير أنها تخلت عنهم. 

والآن تركيا هي الداعم الأكبر والوحيد – في الوقت الحالي – للمعارضة السورية – بشقيها السياسي والعسكري- فما الذي يمنع تركيا من التخلي عنها بعد أن أصبحت حملاً ثقيلاً وورقة خاسرة لصعوبة تغيير النظام من ناحية، ومن ناحية أخرى الاعتراف الدولي بأن رحيل الأسد لم يعد مطلبًا. إلا أن في تصريح لمتحدث وزارة الخارجية “قالن” الذي يقول فيه: “إن تركيا لم تخذل المعارضة السورية إطلاقًا حتى اليوم، وأن الهدف من لقاء وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو مع قيادات من المعارضة هو طمأنتهم مجددًا بهذا الخصوص”. يأتي التصريح في سياق طمأنة المعارضة، ولكن التاريخ التركي لا يكذب، فتركيا هدفها الأول والأهم من الدخول في سوريا، هو حماية أمنها القومي من حزب العمال الكردستاني الذي يتبعه وحدات حماية الشعب الكردية التي اتحدت مع “قسد”، عند تحقيق الهدف ستنتهي الوسائل.

مغازلات المعارضة التركية للنظام السوري

نقلاً عن وسائل إعلام سورية، ووفقًا لتقرير صادر عن صحيفة (Türkiye) يستند إلى مصادر في وزارة الخارجية السورية، فإن المعارضة التركية متمثلة في حزب الشعب الجمهوري بشكل خاص بعثت رسائل لبشار الأسد تطالبه بعدم لقائه لأردوغان، وتقول:

“أيام أردوغان أصبحت معدودة، ويمكن لأي لقاء أن يؤثر على مستقبل الانتخابات، لذا عند وصولنا إلى سدة الحكم، نتعهد بسحب جميع القوات من الأراضي السورية بما في ذلك إدلب، وتلبية جميع مطالب الحكومة السورية، ودفع تعويضات مالية”.

يتضح من ذلك أن المعارضة تريد تصعيب الأمور على أردوغان، وهنا تلتقي مصالح المعارضة مع النظام السوري، خصوصًا أن المعارضة لم تفرض شروطًا على النظام غير شرط وحيد وهو عدم مساعدة أردوغان، وقدمت تنازلات كبيرة قد لا تلتزم بها في حال فوزها بالانتخابات المقبلة. 

بالرغم من كون العرض مغريًا للنظام، واحتمال تنفيذه ضئيل، فقد يقبل النظام به لسببين:

  1- رغبة النظام بانتهاء الاحتلال التركي قبل بدء المفاوضات.

 2 – رغبة الأسد برحيل أردوغان من السلطة. 

الأكراد لاعب في العلاقات الثنائية

الأكراد الذين يتمثلون في “قسد” (قوات سوريا الديمقراطية)، هم الخاسر الأكبر من هذا التقارب، لأن جميع الأطراف (سوريا، تركيا، روسيا، إيران) اتفقت على إنهاء وجود “قسد” الذي يعتبر مدعومًا من أميركا بشكل رمزي. وفي بيان لمجلس “قسد” الذي يقول فيه: “إننا في مجلس سوريا الديمقراطية ننظر بعين الشك والريبة إلى الاجتماع بين وزيري دفاع الحكومة التركية والسورية وبرعاية روسية”، ويؤكد الخطر على قسد في حال إتمام التقارب. تركيا تريد إنهاء أي تجربة للحكم الذاتي للأكراد خوفًا من مطالباتهم بالحكم الذاتي في الأراضي التركية، والنظام السوري يريد استعادة السيادة على كافة الأراضي السورية ولا يرغب في استمرار تجربة الحكم الذاتي الكردي خوفًا من انفصال مستقبلي، وإيران كذلك بسبب وجود أقليات كردية فيها. أمَّا روسيا فتريد إنهاء أي وجود أميركي في سوريا، وتثبيت أن سوريا منطقة نفوذ روسيا (وسوفيتية سابقًا).

أمَّا الاكراد فيلعبون على وتر محاربة (داعش)، مهددين أن أي صدام معهم سيعيد إحياء “تنظيم داعش”. ولكن من وجهة نظر القوى الكبرى، فإن (داعش) انتهى إلى الأبد. ويبدو أن الورقة الكردية في طريقها للاحتراق، إلا في حالة رغبة الولايات المتحدة في دعمهم بشكل أقوى، وهذا غير متوقع بسبب الأوضاع العالمية.

آثار الزلزال السياسية على العلاقات الثنائية

بعد حدوث موجة من الزلازل في كلٍّ من جنوب تركيا وشمال سوريا في 8 فبراير 2023، بدأت التكهنات والتساؤلات عن آثار الزلزال السياسية، خصوصًا مع مطالبات من جهات حقوقية عدة برفع العقوبات الدولية المفروضة على سوريا، لو بشكل مؤقت، لمساعدة المنكوبين في الزلزال؛ وأتى الرد عليها بأن العقوبات لا تمنع المساعدات الإنسانية وأنها لم تتوقف. وبعد موجة التعاطف والمساعدات الدولية للمنكوبين بدأت محاولات النظام بإعادة علاقاته مع دول عدة، واستجابت دول لتلك المحاولات كدولة تونس التي رفعت التمثيل الدبلوماسي وأعادت كافة العلاقات. وفتحت دول أخرى خطًا مباشرًا مع النظام كمصر والبحرين. أمَّا في تركيا بدأت دول تتصف علاقاتها معها بالعداء والتوتر بتقديم المساعدات كالسويد واليونان وإسرائيل.

ومع صعوبة التكهن بسبب الزمن القصير، فإن إمكانية تأجيل الانتخابات التركية قد تؤثر في عودة العلاقات المحتملة. فبعد أن كان النظام يماطل حتى انتهاء الانتخابات، إلا أن ذلك قد يعجل بتقارب محدود، ويعزز هذا التكهن حالة الهدنة بين البلدين وصعوبة قيام تركيا بعملية جديدة كانت تهدد بها بسبب الأوضاع الراهنة. ولكن رغبة الفصائل المسلحة المدعومة من تركيا بإدارة المساعدات القادمة لسوريا في شمال غربها، قد يحرك صراع نفوذ بينها، وهو ما قد يستغله النظام لإعادة فرض سيطرته على تلك المناطق. 

مواقف دولية من التقارب التركي السوري المحتمل 

كما جرت به العادة أتت المواقف الدولية بين معارض ومؤيد. سنستعرض مواقف أهم الدول من التقارب وأكثرها تأثيرًا على الأرض في سوريا.

الموقف الروسي من التقارب 

روسيا صاحبة الكلمة الفصل، لكن بالرغم من أنها المسيطر الأكبر على الأرض بدعمها اللامحدود للنظام السوري بإبرام اتفاقيات تضمن ذلك، مثل: اتفاق سوتشي مع تركيا، ومسار أستانة التي ترعاه مع إيران وتركيا لرغبتها بحل الأزمة عن طريقها وليس عن طريق دولة أو منظمة أخرى، حتى لو كانت الأمم المتحدة؛ فإن الدور التركي هو دور محوري في ترسيخ نتائج انتصار روسيا ببقاء النظام ودحض فكرة رحيل بشار. إذ تتقاطع مصالح تركيا مع روسيا بأن الأولى تريد تفتيت وإقصاء الأكراد من الساحة الإقليمية، والذين يتمثلون في وحدات حماية الشعب المنضوية تحت قوات “قسد” المدعومة أميركيًا والمتمركزة في مناطق شمال شرقي سوريا الغنية بالنفط. أمَّا مصلحة روسيا، فتكمن في خروج قوات “قسد” من اللعبة واستعادة النظام لنفوذه، ولو شكليًا، في المناطق الخارجة عن سيطرته، وبالتالي سيطرة النظام وحلفائه (روسيا وإيران وتوابعها) على سوريا بشكل كلي؛ لذلك تسارع روسيا بإعادة العلاقات بين البلدين، وترغب بمساعدة أردوغان في الانتخابات، لعدم ضمان مواقف المعارضة التي تبدو مناهضة للتقارب مع روسيا ودعمها للغرب ضدها.

الموقف الأمريكي من التقارب 

اتسم الموقف الأميركي من التقارب بالرفض، إذ صرح المتحدّث باسم وزارة الخارجية الأميركية “نيد برايس” للصحافيين: “نحن لا ندعم الدول التي تعزّز علاقاتها أو تعرب عن دعمها لإعادة الاعتبار لبشار الأسد، الديكتاتور الوحشي”.

ويتضح من التصريح أنه خفيف اللهجة ولم يتم تخصيص تركيا، لأسباب سياسية، منها: رغبة أميركا بضم السويد لحلف الناتو، الذي تملك تركيا فيه حق الفيتو ورفض انضمام السويد للحلف؛ وعدم رغبة أميركا مساعد روسيا لفرض نفوذها في المنطقة؛ والخوف من تحالف تركي روسي ضد المصالح الأميركية في سوريا. 

ويُشار إلى أن أميركا انسحبت في عهد “ترمب” 2019 من سوريا، وبقي الدعم الرمزي للأكراد مع عدد محدود من القوات الأميركية. إن التحالف الدولي لمحاربة (داعش) بقيادة أميركا عزز من نفوذ الأكراد في شمال سوريا (المنطقة التي يوجد بها حقول النفط)، وكان ذلك نقطة خلاف كبير مع تركيا التي تتهم أميركا بتهديد أمنها القومي.

الموقف الإيراني من التقارب

دعمت إيران النظام منذ اليوم الأول من الثورة السورية، وقدمت له الدعم المالي والعسكري، وأصبحت الحليف الموثق به. وترغب في فك عزلة سوريا الدولية، لذا فهي تريد عودة العلاقات بين تركيا وسوريا، ولكن ليس بشكل قطعي. فإيران مترددة خوفًا من تأثير عودة العلاقات على نفوذها في سوريا التي ترغب في الحفاظ عليه على أقل تقدير. ولكن بسبب الأوضاع الداخلية الحاصلة في إيران من احتجاجات عارمة ومشاكل اقتصادية قاسية وأزمات أخرى، أصبحت سوريا حملاً ثقيلاً عليها وتريد تخفيف هذا الحمل حتى لو أدى ذلك إلى التقليل من نفوذها في سوريا؛ لذلك إيران تقف مع عودة العلاقات وقفة خجولة. ربَّما أيضًا تأثير روسيا دفعها إلى القبول بذلك. وكذلك لإيران رغبة كبيرة في إخراج القوات الأميركية وإنهاء الفصائل الموالية لها “قسد”، فالتقارب التركي السوري يعني مواجهة ضد “قسد” وإنهاء الإدارة الذاتية التابعة لها؛ مما يعني الاتفاق بشكل أساسي على إنهاء النفوذ الأميركي على الأرض في سوريا. وأكد ذلك تصريح لوزير الخارجية الإيراني الذي “عبر عن ترحيب إيران بالحوار بين تركيا والنظام السوري”.

تقييم الأوضاع الحالية 

لا يمكن عزل ملف العلاقات التركية السورية عن الأوضاع الإقليمية والعالمية، إذ إن الحرب الأوكرانية الروسية أثرت تأثيرًا كبيرًا في العديد من الملفات العالمية؛ فأعادت إشعال الحرب بين الشرق والغرب. ومع الرغبة الأميركية في تحجيم النفوذ الصيني والروسي في العالم ككل، ورغبة روسيا في التفرغ للملف الأوكراني، وانشغال إيران بالاحتجاجات الداخلية، وإعادة انتهاج تركيا سياسة “صفر مشاكل”، ورغبة إسرائيل ودول الخليج بتحجيم الدور الإيراني في سوريا بشكل خاص والذي سيساعد في إعادة العلاقات بين البلدين والحد من النفوذ الإيراني، ومع الأزمات الاقتصادية العالمية؛ كل الإشارات تشير إلى رغبة في تهدئة الملف السوري على أقل تقدير، وذلك سيساهم بعودة العلاقات على المدى المتوسط.

السيناريوهات 

تنحصر طبيعة العلاقات التركية السورية في ثلاثة سيناريوهات، هي: التطبيع، التقارب المحدود، بقاء القطيعة.

جميع السيناريوهات تفرض حالات التقارب على المديين القصير والمتوسط. وفي رأيي أن العلاقات مع سوريا على المدى البعيد ستعود طبيعة مع كافة دول العالم.

أولاً: تطبيع كامل بين تركيا والنظام السوري 

يفرض السيناريو عودة العلاقات بشكل كامل بين البلدين. ورغم عدم ترجيح هذا السيناريو، فإن هناك ما يدعمه: 

1- رغبة النظام بإنهاء الدعم للمعارضة السورية وتفكيك الائتلاف السوري الذي يعتبر تحت الوصاية التركية.

2- وجود أزمات داخلية لكلا البلدين وهما بحاجة لتخفيف التوتر، خصوصًا مع كارثة الزلزال.

3- الضغط الروسي والدعم الإماراتي لعودة العلاقات في أقرب وقت ممكن، ويتوافق هذا الضغط مع رغبة تركيا في انتهاج سياسة “صفر مشاكل” من جديد، ويتطابق أيضًا مع رغبة “أردوغان” و”بوتين” بإنهاء الملف قبل الانتخابات التركية.

4- رغبة تركيا في تخفيف العبء المالي عن تحمل تكلفة العمليات العسكرية، وتكاليف الائتلاف السوري، ودعم الفصائل المسلحة؛ ورغبة تركيا بتحمل النظام حماية المناطق الخاضعة لسيطرة “قسد”، وذلك يدعم حفظ سيادة سوريا ووحدتها (توافق رغبة النظام).

ولكن هناك ما يضعف هذا السيناريو، ويتلخص في الآتي:

1- النظام السوري لا يثق في أردوغان والعكس أيضًا.

2- صعوبة حل الملفات سريعًا، مع عدم رغبة النظام السوري إعطاء أردوغان أي دعم في الانتخابات المقبلة.

3-عدم جدية النظام في فتح جبهة ضد “قسد” المدعومة أميركيًا، وهذا يخالف الرغبة التركية التي تهدد بعملية قادمة.

4- عدم رغبة تركيا في الانسحاب قبل التأكد من إخلاء المناطق من الأكراد، ويتضح ذلك باحتمال قيام عملية تركية جديدة.

ثانيًا: تقارب محدود 

يفرض السيناريو عودة العلاقات بشكل جزئي بين البلدين. مع ترجيح هذا السيناريو الذي هناك ما يدعمه: 

1- حدوث الزلزال الأخير الذي سيعطي إمكانية للتنسيق بين البلدين.

2- بدء عودة اللاجئين إلى سوريا بعد الزلزال.

3- الضغط الروسي الكبير لحدوث التقارب.

4- عدم رغبة تركيا في الانسحاب كليًا، بل أن يكون تدريجيًا.

5- رغبة النظام في تخفيف أزمة الغذاء والطاقة في أسرع وقت.

6- رغبة إيران في التقارب، ولكن دون تقليص نفوذها في سوريا.

وهناك ما يضعف هذا السيناريو، ويتلخص في الآتي:

1- تعثر المفاوضات وعدم التقاء وزراء الخارجية في الشهر الماضي.

2- عدم رغبة النظام السوري إعطاء أردوغان أي دعم في الانتخابات المقبلة، خصوصًا مع وعود المعارضة التركية له.

ثالثًا: بقاء القطيعة 

يفرض السيناريو عدم عودة العلاقات بشكل كلي بين البلدين. وبالرغم من عدم ترجيح هذا السيناريو، فإن هناك ما يدعمه: 

1- الشروط السورية قبل بد المفاوضات التي تخالف الرغبة التركية.

2- عدم جدية النظام لأسباب عدة من أهمها: رغبة النظام برحيل أردوغان، وعدم رغبة النظام في مواجهة الأكراد خوفًا من رد أميركي.

وهناك ما يضعف هذا السيناريو، ويتلخص في الآتي:

1- ليس من مصلحة تركيا والنظام استمرار القطيعة.

2- رغبة تركيا والنظام في إنهاء تجربة الحكم الذاتي الكردي في شمال سوريا لقطع حلم الأكراد بإنشاء دولة لهم.

3- الضغوط الداخلية والخارجية لكلا البلدين التي تحتم التقارب بينهما.

الخاتمة 

تتسم العلاقات بين البلدين بالبراغماتية، فعند التقاء المصالح تصبح العلاقة ودية، وعند اختلاف المصالح تتحول الى عداء، وكأن لم يكن هناك ود. والآن بعد صراعات سورية تركية تلتقي المصالح بين البلدين، ومع ضغط روسي وإماراتي، وتزامن مع أزمات اقتصادية، وأخرى داخلية يتصدرها ملف اللاجئين؛ كل ذلك يدعو إلى حوار وتنسيق بين تركيا والنظام السوري على أقل تقدير، يجعل من الممكن إعادة العلاقات بين البلدين. صحيح أن هناك خاسرين من هذا التقارب المحتمل وهم المعارضة السورية والأكراد، وهناك مترددون متحفظون إلى حد ما ويتمثلون في إيران وإسرائيل، ورافضون لهذا التقارب ولو بلهجة خفيفة ويتمثلون في أميركا ودول الاتحاد الأوربي، ومن أكبر الداعين له روسيا والإمارات؛ غير أن العلاقات بين البلدين ومواقف الدول الأخرى خاضعة لمصالح كل طرف. وحين تلتقي مصالح جميع الأطراف ستعود العلاقات مع سوريا، ليست فقط مع تركيا إنما مع المجتمع الدولي ككل، بعيدًا عن الاعتبارات الإنسانية.

طالب علوم سياسية*

النشرة البريدية

سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!

تابعونا على

تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر