ما الذي حدث في 2016؟
قدمت استطلاعات الرأي قبل الانتخابات الرئاسية عام 2016 تنبؤات عالية الاحتمال (90%) بفوز “هيلاري كلينتون”، مع وجود تقديرات أخرى تراوحت بين 71 إلى 99%. إذ تقدمت “كلينتون” على المستوى الوطني في استطلاعات الرأي التي سبقت الانتخابات عام 2016 على منافسها “دونالد ترامب”، حيث توقعت مؤسسة FiveThirtyEight أن “كلينتون” أكثر احتمالًا للفوز في الانتخابات من “ترامب”، وأظهرت استطلاعات الرأي تقدم “هيلاري كلينتون” في ولاية ميتشيجان بما يتراوح بين نقطة وسبع نقاط مئوية، كما تقدمت “كلينتون” في استطلاعات الرأي في العديد من الولايات التي فاز بها “ترامب” في النهاية بما في ذلك ولايتا ويسكونسن وبنسلفانيا. كما أن المعدلات النهائية لاستطلاعات RealClearPolitics أظهرت تقدم “كلينتون” في المجمع الانتخابي وحصولها على مجموع 272 مقابل 266 لترامب.
إلا أن نتائج الانتخابات جاءت مخالفة لما أظهرته استطلاعات الرأي، فعندما تم الإعلان عن فوز “دونالد ترامب” بالرئاسة وحصوله على أصوات الولايات التي جاءت بها النتائج في صف “كلينتون”، كان ذلك بمثابة صدمة للقائمين على استطلاعات الرأي، الأمر الذي تسبب في شيوع حالة من تراجع الثقة في آلية استطلاعات الرأي بل والإجماع واسع النطاق حتى اللحظة الراهنة على فشل منهجية وآلية استطلاعات الرأي.
أصدرت الرابطة الأميركية لأبحاث الرأي العام (AAPOR) تقريرًا مفصلًا لتقييم أداء استطلاعات الرأي في 2016، والوقوف على أسباب إخفاقها ومخالفاتها المنهجية في تقدير نتائج الانتخابات بصورة دقيقة، والذي أظهر:
استطلاعات الرأي لعام 2016 على المستوى الشعبي تعد من أصح وأدق الاستطلاعات مقارنة بسابقيها تاريخيًّا منذ عام 1936، وأشارت إلى أن “كلينتون” تقدمت بنحو 3% على المستوى الشعبي، وفي النهاية فازت بالتصويت الشعبي بنسبة نقطتين مئويتين.
أن استطلاعات الولايات تعد من الأسوأ تاريخيًّا من حيث التنبؤ بنتائج الولاية منذ انتخابات عام 2000، وأن الخطأ يرجع إلى المبالغة في تقدير الدعم لكلينتون والتقليل من الدعم لترامب.
في ولايات بنسلفانيا وميتشيجان وويسكونسن المتأرجحة، كان العامل المحوري في إخفاق استطلاعات الرأي هو الاستخفاف والتقليل من الدعم الموجه لترامب وعدم فعاليته أو قدرته على تحقيق الفوز بالانتخابات، إلى جانب وجود تغيّر حقيقي في السلوك الانتخابي، وعدم إفصاح الناخبين عن هوياتهم الحقيقية ودعمهم لترامب خلال الأسبوع الأخير من الحملة الانتخابية، والتي شهدت عددًا لا يذكر من استطلاعات الرأي، فضلًا عن عدم تصميم العينات بكل صحيح ومواكب للتغيرات الاجتماعية والميول السياسية أثناء إجراء الاستطلاع.
الاعتماد على نسب المشاركة الشعبية في 2012 باعتبارها النسبة الفعلية للمشاركة بين الفئات الاجتماعية في 2016. إلا أن الانتخابات أظهرت نسب مشاركة أكبر في المقاطعات الجمهورية عن المقاطعات الديمقراطية، وأن استطلاعات الرأي بناء على أخذها بأنماط المشاركة في 2012 قللت من سكان المناطق الريفية ذوي البشرة البيضاء في العينات الشعبية وزادت من ذوي البشرة السمراء.
هل نجحت استطلاعات 2020؟
أظهرت نتائج استطلاعات رأي انتخابات الرئاسة الأميركية 2020 تقدمًا ملحوظًا لجو بايدن على ترامب، فقد توصل الاستطلاع الذي أجرته جامعة جنوب كاليفورنيا إلى ارتفاع نسبة “بايدن” 11 نقطة مئوية على المستوى الوطني، وبنسبة فوز تصل إلى 53٪ لبايدن مقابل 42٪ لترامب. كما حصل “بايدن” في استطلاع أجرته مؤسسة Investor’s Business Daily ومعهد TechnoMetrica للسياسات على تقدم كبير على المستوى الوطني على “ترامب”، إذ تفوق المرشح الديمقراطي بنسبة 7 نقاط مئوية. وفي استطلاع وطني آخر أجرته جامعة كوينيبياكQuinnipiac University، تقدم “جو بايدن” بنسبة 10 نقاط مئوية، كما منح مجمع الاستطلاعات FiveThirtyEight “جو بايدن” فرصة 87 من 100 للفوز في الانتخابات.
وفي استطلاعات الرأي الخاصة بالولايات التي أجرتها مؤسسة YouGov لصالح قناة CBS News، تقدم “بايدن” في ولايات ويسكونسن وميتشيجان وبنسلفانيا بنسبة تتراوح بين سبع وعشر نقاط مئوية، وبنسبة 4 نقاط مئوية في ولاية جورجيا. وفي استطلاع آخر أجرته شبكة فوكس نيوز Fox News، تقدم “بايدن” في ولايتي ويسكونسن وميتشيجان أيضًا، وأظهر استطلاع أجرته شركة Ipsos تقدم “بايدن” في ولاية أريزونا. كما أظهرت استطلاعات رأي قامت بها صحيفة New York Times وكلية SiennaCollege بمدينة نيويورك تقدم “بايدن” في ولايات أريزونا وبنسلفانيا وويسكونسن بنسب ما بين 6 إلى 9 نقاط مئوية. إلا أن نفس الاستطلاع توقع تقدم “بايدن” في ولاية فلوريدا بنسبة 3%، وهو الأمر الذي لم تأتِ نتائج الانتخابات مواكبة له. كما أن استطلاع رأي CNN أظهر تقدم “بايدن” في ولايتي كارولينا الشمالية وميتشيجان بنسب 6 و12% على التوالي. وفي استطلاع قامت به صحيفة The Hill، أظهرت النتائج تفوق “ترامب” في الانتخابات الرئاسية وفوزه المرتقب بالانتخابات نتيجة وجود أخطاء منهاجية خاصة بطبيعة الأسئلة والعينات الشعبية والظروف السياسية وحالة اللا يقين الشديدة التي تعاني منها الولايات المتحدة.
وعلى الرغم من حصول “بايدن” على الولايات التي جاءت نتائج استطلاعات الرأي بها في صفه، إلا أن نسب الفوز على “ترامب” في تلك الولايات جاءت بعيدة تمامًا عن النسب التي تم التنبؤ بها، والتي لم تزد على 1% في كل الولايات المتأرجحة، فضلًا عن إخفاق الاستطلاعات بشأن ولايتي فلوريدا وكارولينا الشمالية التي تميل حتى اللحظة إلى “ترامب”.
وفي محاولة لتحديد الأثر الناتج على السياسة في الولايات المتحدة نتيجة الأزمة التي تواجه استطلاعات الرأي، يمكن القول إن ذلك الأثر سيطال:
المؤسسات الإعلامية والإخبارية: والتي اعتمدت بشكل كبير في دعم قصصها الإخبارية ودورها المجتمعي على استطلاعات الرأي لتحقيق أكبر قدر من المصداقية والمهنية في أعمالها، إلى جانب دورها في مناقشة القضايا الأهم في المجتمع الأميركي، ونظرة المجتمع وثقته في تلك الوسائل الإعلامية والتي هي في أزمة بدورها خاصة بين الجمهوريين، وتزايد فجوات الثقة في وسائل الإعلام الأميركية.
الرأي العام: إذ إن فشل استطلاعات الرأي يترك الأمريكيين بدون آلية منهجية وعلمية لفهم ما يفكر فيه الشعب الأمريكي في الحياة بشكل عام وتجاه السياسة بشكل خاص، وأثر ذلك على قدرة المؤسسات على توجيه الرأي العام، الأمر الذي سيكون له أشد الأثر على قدرة المواطن الأمريكي والحياة السياسية على طرح بدائل والاختيار فيما بينها كأفضل خيار يرشد السياسيين لدعم تماسك المجتمع الأميركية. فضلًا عن أن غياب الرأي العام هو بداية لهدم أحد أسس الجمهورية ووجود مجال عام يمكن من خلاله تواصل الطبقة السياسية بالمجتمع ومعرفة ما يجري بالفعل بالمجتمع.
العلمية: يُقصد بالعلمية أمران؛ الأول هو مدى علمية المناهج الحالية لاستطلاعات الرأي، والثاني هو اقتصار العلمية على هوس استطلاعات الرأي والدراسات الكمية. إذ إن علمية استطلاعات الرأي تواجه أزمة في منهجيتها وآلية تنفيذها وكيفية تواصلها مع المجتمع، فضلًا عن أن علم السياسة لا يقتصر فقط على الدراسات الكمية التي تبين اتجاهات عامة واختزال المشكلات السياسية والاقتصادية في مجموعة من المؤشرات الكمية، لكن علم السياسة يتطلب الابتكار والفن في تحليل المشاكل الاجتماعية والسياسية ووضعها في الحسبان أمام صانع القرار، إلى جانب إضفاء هذا الطابع الفكري على منهجيات استطلاعات الرأي للوصول لصورة أكثر دقة، وذلك نتيجة لحالة اللا يقين الشديدة في الحياة السياسية بشكل عام، وتفشي وباء كورونا الذي زاد وعزز من تلك الحالة، التي بدورها تحتاج للسياسة الفكرية كداعم لتفكيكها وفهمها.
خلاصة القول، إن استطلاعات الرأي تعاني من أزمة منهاجية وسياسية في الولايات المتحدة الأميركية، خاصة مع اعتماد علم السياسة الأميركي بشكل رئيسي على مدرسة استطلاعات الرأي. ولعل الأثر السياسي الأكبر لتلك الأزمة هو حالة التشكيك الكبيرة التي قد تعتري تلك الآلية باعتبارها حلقة التواصل بين الطبقة السياسية والمجتمع الأميركي، إلى جانب إمكانية عدم كفاية الاستطلاعات ومنهجها الحالي لدى المجتمع الأميركي لتكوين أو تشكيل رأي عام ومجال يثق في آلية استطلاعات الرأي باعتبارها الآلية الرئيسية للوصول لتلك الأهداف. فالدور السياسي للرأي العام هو تقويم السلطة السياسية، وطرح الخيارات أمامها، وترشيد تلك البدائل للوصول لأفضل السياسات التي تخدم المجتمع الأميركي وتعزز من شرعية النظام الحاكم. فإذا أخفقت استطلاعات الرأي وزادت أزمتها، سيطرح ذلك السؤال عن أي من الوسائل سيكون أكثر تعبيرًا عن تفضيلات الشعب الأميركي، بما يفتح المجال أمام ابتكار وسائل أكثر انضباطًا من الناحية العلمية. بالإضافة إلى ذلك، فإن إدخال مدارس فكرية أخرى للعلوم السياسية معتمدة على التحليل الكيفي والفكر والفلسفة إلى جانب استطلاعات الرأي من شأنه دعم المنهجية العلمية لدى الاستطلاعات، وعبور المشكلات الراهنة والأزمة التي تعاني منها الاستطلاعات.