نحن.. وقطر: فرضيات الأزمة | مركز سمت للدراسات

نحن.. وقطر: فرضيات الأزمة

التاريخ والوقت : الثلاثاء, 30 مايو 2017

د. عبدالله الحمود

 

في علم مناهج البحث.. يسعى الباحثون، عندما تواجههم مشكلة الغموض في فهم ظاهرة ما، إلى بناء فرضيات حول الظاهرة.. يتعهدونها بالدراسة والتحليل.. بغرض فهم الظاهرة وتفسيرها..  وتُبنى الفرضيات عادة على بعض مؤشرات يجتهد الباحث في جمعها، وتبويبها، وتقريب العلاقات بينها لبناء الفرضية وتصوُّر حقيقتها تصورا غير قطعي.. فهذه الحقيقة المتصورة أو المتوقعة لا تعدو أن تكون “فرضية” لا غير.. فالحقائق لا تزال غامضة..

نحن .. وقطر ..  اليوم .. حقيقة غامضة لدى الرأي العام.. وأزمة ظاهرة بامتياز.. بتاريخ لا يعدو أن يكون جملة من المؤشرات التي لن تقود لفهمٍ دقيقٍ لما يجري .. بقدر ما يمكن أن تساعد في بناء فرضيات مسرح الأزمة العارمة، الصارمة، العميقة في جسد الخليج العربي.. والمؤلمة جدا.. والمؤسفة بكثير من المقاييس..

أزمة .. جعلت بفجائيتها الحكيمَ حيرانا  أسِفا.. فما الذي يمكن أن يكون قد حدث؟

الفرضية الأولى.. قطر تلعب بالنار

منذ 27 يونيو 1995م، وهو التاريخ الذي تقلد فيه الشيخ حمد بن خليفة الحكم في قطر بعد انقلابه على أبيه، لم تعد قطر دولة خليجية الهوى. ففي معظم الأحداث السياسية الكبرى التي جرت في المنطقة بعد ذلك التاريخ كانت قطر تبرز كمتغير ما من متغيرات الحدث، ولكنها كانت بكل وضوح “متغيرا تابعا” لقوى دولية. ذلك العام 1995م يقع وسط حقبة تاريخية عصيبة على المنطقة، حيث لم تكد المنطقة تنتهي من أزمتي الحربين الخليجيتين الأولى والثانية، 1990-1991م، إلا وبدأت مرحلة استقطابات سياسية وعسكرية عنيفة انتهت بحرب الخليج الثالثة واحتلال العراق في 2003م. كما شهدت المنطقة أيضا، وبخاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م، تحولا جذريا في السياسة الأمريكية، وتغيرا غير مسبوق في معادلات الملفات الساخنة، وظهرت، نتيجة تصدع العلاقة مع الإسلام السلفي التقليدي في المنطقة، علامات مغازلة الغرب والأمريكيين بشكل خاص للـ “إخوان” والعمل على تمكينهم من مفاصل مهمة في المنطقة وقيادة دول محورية فيها أبرزها تونس ومصر، إبان ما سمي بالربيع العربي. وجاء ذلك التحول، كما يبدو، نتيجة سعي أمريكي واضح لاستبدال الحلفاء التقليديين في المنطقة (السلفيين) بحلفاء جدد (الإخوان) ظنا من الأمريكيين، كما يبدو، أن مرجعية “المرشد الإخواني” قد تساعد الغرب في كبح جماح التطورات الجهادية عند المسلمين التي بدأت في التنامي في أعقاب إعلان الولايات المتحدة الحرب على الإرهاب، وتعظيم اتهام المسلمين بتهم الإرهاب دون غيرهم. ويبدو أن شيئا من مقايضات تسليم السلطة في قطر للشيخ حمد كان يدور حول الأدوار التي على قطر القيام بها كـ “متغير تابع” في المنطقة، لتمرير سياسات جديدة كان يراد لها أن تحل محل السياسات التقليدية. وكان “الإخوان” المعادل الجديد الأكثر حظوة وحظا حينذاك. ويبدو أن قطر لم تعد يومها تملك من الخيارات إلا خيارا واحدا: السمع والطاعة. ومن هنا، يمكن، ربما، فهم كثير من أدوار قطر في مناوأة كل دروس المدرسة التقليدية في المنطقة، والدفع في اتجاه تمكين الإخوان لصالح رؤية الأمريكيين حينذاك وتحقيق حلمهم في الشرق الأوسط الجديد، عبر أدوات الفوضى الخلاقة. وهكذا أرغمت قطر على اللعب بالنار، ولم تعد تملك غير ذلك. واستمرت هذه المرحلة حتى فشل الإخوان في إدارة “مصر”، وظهور عجز مرجعيتهم الدينية في أن تكون بديلا حيويا لتحقيق المصالح الغربية، وبالتالي سقط حكم الإخوان في مصر بقيام الثورة على الرئيس محمد مرسي، والعودة للمدرسة التقليدية بتسنم الرئيس السيسي حكم مصر في العام 2014م. من هنا، يمكن أيضا، إيجاد تفسير ما، لتنازل الشيخ حمد بن خليفة عن إمارة قطر لابنه الشيخ تميم في يونيو 2013، حيث ثبت حينها ضرورة التغيير في قطر، ربما، بما يتواءم مع أدوار جديدة لقطر يكون الإخوان فيها على خلاف ما كانوا عليه فيما بين 2011-2013م. وهذا ما يقود لفهم الأدوار القطرية تجاه الإخوان تحديدا بعد العام 2013 وحتى الآن، وهي الأدوار القائمة على احتواء فلول الإخوان والإبقاء عليهم، لأن الغرب لا يزال يحتاج وجودهم ضمن قائمة من مهددات مصالح المنطقة، على الرغم من حسمه الأمر في عدم الاعتماد عليهم كخيار استراتيجي حقيقي.

ويبدو أن الأمر نفسه جرى مع “إيران”. ففي الوقت الذي كانت فيه أمريكا “الديموقراطية” تفكر جديا في الدفع بالإيرانيين لقيادة المنطقة كخيار بديل للإخوان الذين ثبت فشلهم، سعت مباشرة لتمكينهم من رقاب عدة عواصم عربية، وغضت الطرف عن تمدد مليشياتهم الحوثية في اليمن، وأوشكت المنطقة أن تقع في شَرَكِ عظيم. ولكن الله لطف، فبادرت المملكة بقيادة حملة تصحيحية غير مسبوقة، وظفت فيها جل طاقاتها الدبلوماسية والسياسية والعسكرية أيضا بإطلاقها عاصفة الحزم، فتغيرت كثير من عناصر الأحداث على الأرض، وتم تحديد العدو الأكبر للمنطقة العربية ومنطقة الشرق الأوسط بأنه “إيران الملالي”، ونجحت المملكة في بيان ذلك وجمع الكلمة العربية عليه، وصار ل “إيران” مثل الذي صار لل “إخوان” حيث تحولت بوصلة الارتكاز في المنطقة عنهم، ولم يبق لهم إلا ما بقي للإخوان بأن تَنظَمّ إيران لقوى “التخويف” التي رؤي أن تتبناها قطر. ودخلت المملكة في خيارات دبلوماسية واستراتيجية كبرى مع الولايات المتحدة لبيان الموقف. وفي ضوء هذه التداعيات أستطيع فقط فهم خطاب الشيخ تميم في الأمم المتحدة في سبتمبر من العام 2016، وكَيله للعديد من الولاءات والبراءات التي جاءت في جملتها تقربا لإيران، ومحاولة للإبقاء على ما بقي من أدوار قطرية في المنطقة.

وشاء الله أن يترجل الديموقراطيون في أمريكا بكل رؤاهم وبرامجهم، ويعتلي الجمهوريون رئاسة الولايات المتحدة مع الرئيس الجديد دونالد ترامب. وهنا، وعلى الرغم من أنه لا يمكن تصور تغيرات كبرى في إدارة أمريكا لمصالحها في المنطقة، إلا أنه من المؤكد أن للجمهوريين تقاليد راسخة في أدواتهم في الفعل السياسي والسيادي، تختلف جذريا عن تقلبات المزاج الديموقراطي. وبذلك، أصبح الأمر مختلفا جدا، وظهر تقارب كبير في وجهات النظر السعودية والأمريكية في مواجهة اضطرابات المنطقة، تُوجت بقمم الرياض التاريخية التي أعلنت توافقا تاما في مكافحة الإرهاب بين المملكة وخمس وخمسين دولة إسلامية (ربما أصبحت الآن أربعا وخمسين) والولايات المتحدة الأمريكية. وأعلن الرئيس الأمريكي نفسه خلالها موقف بلاده ضد سياسات إيران التوسعية وضد دعم إيران للجماعات المتطرفة.

أقول ربما، قاد كل ذلك، لأن تواصل قطر دورها التقليدي منذ العام 1995م في اللعب بالنار في المنطقة، وبالتالي تعلن بطريقة عجيبة مواقف أشد عجبا من قضايا مصيرية لا يمكن لدول الخليج ولا للعرب ولا للمسلمين قبولها. وهو لعب، لا تملك قطر خياره أيضا، لأنه يقع ضمن دورها باعتبارها “متغير تابع” لا غير.

الفرضية الثانية.. قطر ممتعضة من نتائج قمم الرياض

احتجت لبيان الفرضية الأولى إلى إطالة السرد التاريخي نسبيا، وكان ذلك ضرورة لبيان بعض مفاصل الموقف المشكل الراهن. وفي هذه الفرضية الثانية وما يليها، سأكون أكثر تركيزا على فحوى الفرضيات. وتتلخص هذه الفرضية الثانية في أن قطر قد ساءها الدور الاستراتيجي العالمي الجديد للمملكة في أعقاب اختتام قمم الرياض الثلاث. فقد استطاعت المملكة تحقيق إنجاز غير مسبوق في جمع كلمة كتلٍ دولية مهمة في مواجهة الإرهاب، وبتوافق رؤى متقدم جدا نتج عنه إنشاء مركز “اعتدال” لمكافحة التطرف. فهل يمكن أن يكون هذ الأمر قد أغاض القطريين؟ وظنوا أنه يترتب عليه تحجيم أدوارهم في مفاصل الصراع في المنطقة؟ أو أنه سوف يكشف عن تلك الأدوار بما لا يسر القطريين ربما؟ تبدو هذه الفرضية، قوية على المستوى الفلسفي. ولكن من الناحية العملية يصعب جدا قبولها. فإذا كان من المسلّم به، أن قطر ومنذ العام 1995م، لم تعد تملك كافة خياراتها، فكيف لها الآن أن تعلن مواقف مضادة لبيان قمم الرياض. إن العودة لفرضية “المقايضات” التي ربما تمت إبان الانقلاب على الشيخ الأب خليفة تَحُول دون قبول فرضية مخالفة قطر لنتائج قمة وقّعت عليها الولايات المتحدة الأمريكية. فقطر باختصار، لا تملك شرف هذه الإرادة. هذا بمنطق القوة.. لا بمنطق الأخلاق والمروءة التي يمكن القول فيها كثيرا في معرض حضور قطر للقمم والمشاركة في فعالياتها، وفي معرض الحديث عن المصير الخليجي المشترك، وقيم العروبة ووحدة الدم والمصير. وبالتالي، لا يمكن تصور أن تعلن قطر مواقف مناوئة للقِمم، ولا مخالفة لهذا الاتفاق الدولي المهيب، لا من حيث تأييد قطر وولائها لإيران، ولا من حيث  كون إيران قوة يمكن أن يعتمد عليها المسلمون لحماية مصالحهم، ولا كون حماس قوة وطنية وممثل وحيد للشعب الفلسطيني، ولا تبرئة الجماعات الإرهابية من وصم الإرهاب المتفق عليه أمميا. هذه مواقف، تثير شبها كثيرة، ليس من بينها استقلالية القرار والرأي القطري. تُرى!! هل ثمة ازدواجية خفية وخطيرة تقوم بها بعض القوى الدولية المهمة ممن شارك في قمم الرياض؟ وتدفع قطر لتبنيها بالوكالة؟

الفرضية الثالثة.. تغيير مستقبلي قريب لأدوار قطر

ثلاثة أمور جوهرية تقود لهذه الفرضية، الأول، منح قطر امتياز أدوار غير مسبوقة منذ الاتفاقية الثنائية للدفاع بين الولايات المتحدة وقطر في العام 1991م، وما تمخض عنه من تشكيل قاعدة العديد بعد ذلك في العام 2003م. الثاني، الانقلاب على الأب خليفة وتتويج الشيخ حمد أميرا للدولة، وقيام قطر بأدوار استراتيجية بالوكالة لدعم الإخوان. والثالث، نضوب تجربة قطر مع الإخوان استراتيجيا، وتحويل السلطة في قطر من الأب حمد للابن الشيخ تميم، في العام  2013م، وصياغة أدوار جديدة لقطر في مرحلة ما بعد سقوط حكم الإخوان. وتمثلت هذه المرحلة بسمات أبرزها استمرار دعم قطر للإخوان واحتواؤهم على المستوى الفلسفي والإعلامي، وقليل من الحركي، لإبقائهم في ذاكرة المنطقة لأغراض استراتيجية كبرى للقوى الدولية ربما، وأيضا التوافق الثنائي بين قطر وكل من إيران وإسرائيل. يضاف إلى ذلك مواقف إيجابية معلنه تجاه جماعات وطوائف مرفوضة من دول المنطقة. ليمثل ذلك كله مثلث رعب وفزاعة موجودة ومستمرة داخل الجسد العربي والخليجي.

هذه الأدوار المعاصرة لقطر، يبدو أنها في طريقها للزوال. فلم تعد سياسات القوى الدولية وبالأخص، الولايات المتحدة على وفاق تام معها. ولم يعد #النظام_السعودي_العالمي_الجديد  يستوعبها، فهي أدوار عليها، باختصار، أن ترحل، دون عودة، فالتحديات الكبرى التي تواجه الأسرة الخليجية والعربية والعالم، تستدعي حسما وحزما غير مسبوقين. ومن هنا، ربما كانت تلك التقاذفات الإعلامية الثقيلة التي تشهدها المنطقة اليوم مخاضا حيويا ومهما لتهيئة الرأي العام لمرحلة ما بعد قمم الرياض.

وبعد..

ثمة حقائق مهمة في سياق هذه الفرضيات، أوردها فيما يلي:

أولا: تقود الملاحظة المتأنية إلى القناعة التامة بأن المملكة عندما تتخذ مواقفها فهي تفعل ذلك بكل وضوح وحسم وحزم، وأن التجارب تؤكد أن المملكة لم تتخذ يوما ما موقفا في غير صالح المنطقة والعالم. وهذا الأمر يقتضي الإيمان العميق بسلامة مواقف المملكة على المستوى الرسمي، وضرورة تبنيها ودعمها لتحقيق المكاسب المرجوة من كافة الجهود ومن قمم الرياض تحديدا.

ثانيا: لا تعني سلامة المواقف الرسمية ملاءمة ما تقوم به وسائل الإعلام الرسمية وشبه الرسمية والخاصة من تغطيات ومعالجات للمواقف. فالعمل الإعلامي شأن آخر. وما رافق هذه الأزمة الراهنة من عمل إعلامي لم يخل من إشكالات مهنية كثير منها جسيم. إن لإعلام الأزمات تقاليد مهمة جدا، ولن يصعب على دارسي الإعلام إدراك أن الإعلام لم يتقن هذه التقاليد أبدا في هذه الأزمة، ربما لأسباب معلومة أهمها أنه لا يمكن تصور أن يقوم إعلامي الأزمة بإجادة فعله الإعلامي فجأة هكذا عندما تقع الأزمة، بل لا بد من سلسلة كبرى من التعليم والتدريب والمران على كيفية إدارة الأزمات إعلاميا. وعندما تخفق وسائل الإعلام في تحقيق قدر جيد من المهنية في إدارة الأزمة فسوف تقود إلى نتائج وخيمة على الرأي العام الذي سيتجاوز كل وسيلة لا تحسن أداءها، ليشكل هو بطريقته رأيه الذي قد ينحاز لأي طرف يراه هو من أطراف الصراع. وهنا، قد يتحقق “الأثر العكسي” للعمل الإعلامي. وهو أثر خطير جدا لو أنه حصل، ويصعب محوه أو تغييره.

ثالثا: في معرض التعامل مع هذه الأزمة، ربما كان الأولى الانطلاق من مدى امتلاك قطر لخياراتها بالفعل. فإن كانت تمتلك كافة الاختيارات، فثمة سيناريوهات خاصة في هذه الحالة، أما إذا كانت لم تعد تملك خياراتها، فربما كان العمل على تعديل ذلك وإعادة سيادة قطر على اختياراتها، هو الهدف الأول، ليأتي ما وراءه من مقاصد تباعا. فعلى الرغم من فداحة ما تقوم به قطر حاليا، تبقى دولة خليجية شقيقة، وأي تعامل مع هذا الواقع ربما كان الأولى به أن يوجه لتفويت الفرصة، ليس على قطر، ولكن على من صنع قطر الراهنة، وإعادتها لمنظومة دول الخليج، وفك ما قد يكون يكبلها من قيود. وأعتقد أن دول المنطقة بقيادة المملكة قادرة على تحقيق نجاحات كبرى في هذا الملف.

انتهى.

أكاديمي وباحث إعلامي*

@DrAlhumood

النشرة البريدية

سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!

تابعونا على

تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر