صناعة النفط الروسية.. نافذة للتركيبة السياسية والاقتصادية للدولة الروسية | مركز سمت للدراسات

صناعة النفط الروسية.. نافذة للتركيبة السياسية والاقتصادية للدولة الروسية

التاريخ والوقت : الثلاثاء, 3 أكتوبر 2017

عبدالعزيز بن محمد المقبل

 

التقارب السعودي الروسي

منذ تقلد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود – حفظه الله – مقاليد الحكم في المملكة العربية السعودية، شهدت العلاقات السعودية الروسية تطورًا كبيرًا في شتى المجالات التعاونية والتنموية. وتكثيف التعاون جاء نتيجة للجهود الاستثنائية التي يبذلها ولي العهد، صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز آل سعود – حفظه الله. فالعالم أجمع، والعالم النفطي – تحديدًا – يمتن للجهود التي بذلها سمو ولي العهد، في سبيل التقارب مع روسيا في اتفاق سقف الإنتاج النفطي العالمي، وهو ما أفرز تحسنًا ملموسًا في أسعار النفط، وبالتالي النمو الاقتصادي العالمي، سواء الاقتصادات العظمى، أو الاقتصادات الناشئة. أما خارج النطاق النفطي، فقد قام سموه بإنشاء أرض خصبة للتعاون المشترك بين الدولتين المؤثرتين إقليميًا وعالميًا. والزيارة التي قام بها سموه، في شهر يونيو من العام الجاري، اكتسبت أهمية بالغة من حيث المضمون النوعي للاتفاقات التي تمَّ التوقيع عليها خلال زيارته – حفظه الله. والزيارة أيضًا، وضعت آلية أساسية للتنسيق المشترك بين الجانبين على كافة الصعد. كلُّ هذه الجهود، أثمرت عن أول زيارة تاريخية لملك البلاد إلى الجمهورية الروسية.

النفط في قرار الكرملين

الثمانينيات الميلادية شهدت أهمية الدور الحساس لصناعة النفط والغاز الروسية. والحرب الباردة كانت في أوج نشاطها بين القطبين المتنافسين على السيادة العالمية. والاتحاد السوفييتي اعتمد على تصدير النفط والغاز في نصف مداخيل الدولة التي كانت تنتج ما يقارب تسعة ملايين برميل يوميًا. الدولة السوفييتية، كانت في معظمها، دولة عسكرية مترامية الأطراف، إلا أن الاتحاد السوفييتي، لم يكن حريصًا على تمويل الغرب بالنفط لأسباب تنافسية بحت. والغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية، كان يبحث عن النفط ويستورده من أجل الدفع بعجلة النمو على كافة الصعد الاجتماعية والاقتصادية والتصنيعية. والغرب أيضًا، لم يكن حريصًا على رفع المداخيل السوفييتية. وما بين حاجة الغرب للنفط السوفييتي، واعتماد السوفييت على النفط كمصدر رئيسي للمداخيل، برز الدور الحساس للنفط كورقة رهان ثقيلة لكل قطب. والنشأة النفطية الجديدة في روسيا، كانت مليئة بالتجارب والمخاطر، لكنها – حتمًا – كانت جزءًا أساسيًا في صنع التركيبة الاقتصادية والسياسية، بل حتى الاستراتيجية لروسيا، بل حتى الدول المستقلة من الاتحاد السوفييتي. والمتأمل لكابينة القيادة الروسية اليوم، من خلال قراءة الأسماء القيادية، يدرك تغلغل رجال النفط والغاز الروس في صلب القرارات الاستراتيجية في الكرملين.

ضغوط الحرب الباردة

الترسانة العسكرية السوفييتية، تطلبت مصادر متعددة للطاقة لتشغيلها، وهو ما دفع بعجلة الصناعة العسكرية إلى الترابط الوثيق مع الصناعة النووية والنفطية. ولم تكن الثروات النفطية، غريبة عن الدولة السوفييتية، فقد ارتبطت أماكن متعددة بالنفط منذ القرن السابع عشر، حتى قبل ذلك الحين. والحرب الباردة، كانت الدافع الأكبر للتوسع في وضع اليد على الثروات الطبيعية، ليس فقط داخل الحدود، بل حتى في الخارج. ولربَّما كانت الوفرة النفطية داخل السوفييت، واحدة من أكثر العوامل التي لم تحفز السوفييت على الوجود العالمي ووضع اليد على الكثير من الحقول النفطية في العالم، إلا أن ذلك أتى بنتائج وخيمة جيوستراتيجيًا. وهو ما يذكرنا بالإمبراطورية البريطانية، مطلع القرن الماضي، عندما اكتفت بريطانيا بما لديها من حقول نفطية في بلاد فارس، ولم تتوسع بالاستحواذ على حقول أكثر في شتى أصقاع العالم، وهو ما تداركته – لاحقًا – فأعادت حساباتها الجيوسياسية. والسوفييت كانوا ينتجون النفط السهل الاستخراج من حقولهم النفطية بتكلفة عمالية فقط، مع ما يتوفر من داخل السوفييت من تقنيات جاهزة وبسيطة. أمَّا في أماكن الوجود العالمي لشركات النفط السوفييتية، مثل: أنغولا، وغينيا الاستوائية، وموزمبيق، فلم يكن التوسع النفطي بقدر القدرة على الإنتاج المحلي. والغرب لم يرد هذا التوسع، فقام بالطلب من معظم المنتجين في عام 1985، زيادة الإنتاج، وبالتالي انخفاض أسعار النفط، وهو ما يعني انخفاض مداخيل السوفييت. هذا الانخفاض كان انخفاضًا، له الأثر البالغ في قدرة السوفييت على تشغيل الدولة. والنتائج الاقتصادية والاجتماعية، كانت وخيمة على السوفييت. والحزب الشيوعي كان في نهاية أيامه، وصولاً إلى عام 1990، بل إن بعض المناطق السوفييتية البعيدة عن العاصمة موسكو، بدأت بإبرام اتفاقياتها النفطية بمعزل عن موسكو. والشيوعية، التي كانت جزءًا من أيديولوجية الشعب الروسي في ذلك الحين، كانت قد خنقت الموارد الطبيعية من التصدير، وكذلك الاستيراد. كل الثروات بما فيها البشرية والطبيعية هي ملك الدولة. والمواطنة الشيوعية اقتضت أن يؤول حتى المجتمع إلى الدولة. والاقتصاد كان اقتصاد الدولة فقط، فلا وجود لاقتصاد السوق، أو المجتمع الاستهلاكي المتعدد المستويات. كلُّ ذلك كان خارجًا عن المألوف.

برامج الانفتاح والتحسين (جلاسنوست وبيريسترويكا)

مع تهاوي أعمدة الاقتصاد العسكري السوفييتي في عام 1988، بدأ الرئيس جورباتشوف، بطرح أفكار أكثر انفتاحًا على العالم، بهدف تحسين الوضع المعيشي. فقد طرح الرئيس جورباتشوف، أشهر برنامج انتقالي من الاشتراكية إلى اقتصاد السوق الحر، وقام بتسمية البرنامج بمسمى برنامج الانفتاح (جلاسنوست)، والتحسين (بيريسترويكا). وتكمن أهمية هذه البرامج في أنها شكلت انتقالاً مهمًا في تاريخ السوفييت ومن بعده روسيا. وقد يظن القارئ، أن أهمية البرامج تكمن في الانتقال فقط، إلا أن الأشخاص القائمين على الانتقال وطريقته، شكلوا التكوين الفكري للطريقة العملية التي تتحرك فيها الاقتصاد والسياسة الروسية. واعتمدت هذه البرامج على استخدام الأموال المخصصة لمشاريع وحقول النفط، من أجل برامج الاقتصاد الجديد وتفعيل بيئة استهلاكية في المجتمع الروسي. ولعل برنامج الانفتاح هو المنوط بتخفيض مستوى التحكم الحكومي في الاقتصاد، وإعطاء الأفراد، المزيد من المرونة للتملك، والخصخصة، وخلق اقتصاد ربحي. وتنفيذ هذه البرامج، كان صعبًا جدًا لسببين: الأول هو أن الحزب الشيوعي يُحكم السيطرة على مفاصل الدولة المركزية. والسبب الثاني، هو أن التكلفة الباهظة للحرب الباردة، كانت في تصاعد مستمر. والبعض من مسؤولي الدولة في المناصب الحساسة في الاستيراد والتصدير، وضع لنفسه قدمًا في الاقتصاد الجديد. والبعض الآخر في شركات الحكومة، أصبح جزءًا من الملاك الجدد للأصول. هذا التفكك في مؤسسات المنظومة العسكرية السوفييتية، واكبته فرص جمة لتكوين منظومة جديدة قائمة على الاقتصاد الجديد، إلا أن 70 سنة من النظام الشيوعي، ترك بصمته الواضحة على مجرى الأحداث.

الانفتاح إلى الانهيار

سارت الأمور أسرع بكثير مما كان الرئيس جورباتشوف يتوقع. الأموال المطلوبة لبرامج الانفتاح، استنزفت الرافد الرئيس لمداخيل الدولة وهو النفط، وبدأت حقول النفط في الانخفاض الواضح في الإنتاج، والموظفون في حقول النفط البعيدة توقفوا عن العمل. وتزامن ذلك مع فترة عصيبة جدًا في أسواق النفط؛ نتيجة اجتياح صدام حسين لدولة الكويت. ورأى جورباتشوف، أن الوقت كان أكثر من مناسب لدعوة الغرب إلى الاستثمار والمشاركة في صناعة النفط السوفييتية. وكانت نقطة تواصل جورباتشوف مع ألمانيا التي قامت بتمرير الدعوة للدول الغربية. ولم يتخيل الغرب المساحات الشاسعة التي عرضها للاستغلال النفطي. هذه المساحات كانت تعادل مساحة الولايات المتحدة والمكسيك مجتمعة. وعكست هذه الدعوة، جسامة المأزق الاقتصادي في السوفييت، وشملت حقول نفط قديمة وحديثة، وامتيازات للاستكشاف والإنتاج. المناطق البعيدة عن العاصمة موسكو، والأقاليم ذات الأنظمة العسكرية شبه المحلية، أدركت أيضًا أن الوضع غير مطمئن، فبدأت بالبحث عن مصالحها بمنأى عن الكرملين والدوما. جميع المقومات متوفرة في السوفييت، فهناك أكبر الحقول، وأفضل العلماء، وأجدر المهندسين، وقوة تصنيعية قادرة على تلبية الاحتياجات. برامج الانفتاح والتحسين، نشأت في موسكو، إلا أن النفط يبعد عن موسكو بمسافات هائلة. كان ينقص برامج الانفتاح والتحسين، برامج حوكمة، وبرامج مالية اقتصادية. وأنظمة الحوكمة كانت أنظمة بدائية مبنية على فرض الجباية والضرائب. وفي شهر مارس من عام1991، فرضت موسكو ضريبة 40% على أي صادرات تخرج من الاتحاد السوفييتي. ولم تأبه الأقاليم بما يدور في أروقة النظام الشيوعي. والبداية كانت من إقليم كازاخستان. وقع النظام العسكري في الإقليم، اتفاقية مع شركة شيفرون، وبدأت بالإنتاج في يونية عام1991. جنَّ جنون الشيوعيين، متهمين البرامج الإصلاحية بأنها البائع للإرث السوفييتي من الثروات الطبيعية. الإنتاج السوفييتي كان وقتها في انخفاض مستمر. وتعرض جورباتشوف إلى محاولة انقلابية في 19 أغسطس 1991. وصار النفط السوفييتي لم يعد يفي حتى بالاستهلاك المحلي. وعاد جورباتشوف وأمر بوقف تصديره في نوفمبر1991. الوضع الاجتماعي تفاقم، حتى أبسط الاحتياجات المنزلية لم تعد تتوفر. خرج جورباتشوف بإعلان انتهاء الاتحاد السوفييتي في 25 ديسمبر1991. بعدها خرج عمدة موسكو بوريس يلتسن، ليعلن قيام جمهورية روسيا. وكانت كلٌّ من: أقاليم كازاخستان وأذربيجان وتركمانستان، أول من أعلنت استقلالها أيضًا. وتوزعت القوى المتشكلة ما بين أنظمة عسكرية، وساسة، ومسؤولي شركات، ومسؤولين حكوميين في أجهزة المال العام.

البداية للتأثير النفطي

بعد خطاب يلتسن عن إعلان استقلال روسيا، ورئاسته للبلاد، كان أول قرار من القرارات التي أعلنها رئيس الوزراء إيغور قيدار، هو رفع جميع القيود عن الاستيراد بعد سنين من الشيوعية. التضخم أخذ بالتصاعد. وأدى ذلك إلى ارتفاع تكلفة إنتاج النفط، وبالتالي انخفض الإنتاج. وخرج قيدار مرة أخرى، ليعلن تخصيص جميع الصناعات النفطية وغير النفطية. التخصيص جاء عن طريق منح أسهم الشركات وسنداتها، لمسؤولين فيها من أجل بيعها، وتسيير أعمال الشركات وتشغيلها، ودفع رواتب الموظفين. وسميت هذه المنح بكروت الدعم، أو كوبونات الدعم. بيد أنه لم يحصل أي من ذلك، وذهبت أسهم الشركات وسنداتها للمسؤولين. بل إن الكثير من المؤثرين بدؤوا في تجميع أكبر قدر ممكن من هذه الكروت، من أجل التملك مستقبلاً في الشركات. ومن هنا بدأت رحلة أثرياء روسيا المؤثرين (أوليجارش).

منذ عام 1994، أخذ التضخم منحنى خطيرًا اقترن بانخفاض مداخيل الدولة – تحديدًا – من حقول النفط. الرئيس الأعلى للجنة النفط الحكومية في الكريملين، فيكتور أورلوف، قام بتنبيه الرئاسة الروسية المتمثلة في بوريس يلتسن، إلى الانخفاض الملحوظ، وأبرز بالإحصاءات توقف ما يقارب ثلث الآبار الروسية عن الإنتاج. أورلوف كان وزير نفط سابق في الحقبة الشيوعية، وهو ملم بحقول النفط والمصاعب الإنتاجية المحتملة. لم يلقَ حديث أورلوف أذنًا صاغية، فاستمر تراجع الإنتاج مع استمرار الأزمة الاقتصادية. هنا نجد تحولاً للقوى والتأثير. أخذ رئيس اتحاد نقابة موظفي النفط، المحامي فلاديمير ميدفيديف، زمام الأمور، وتوجه إلى الكرملين مدججًا بالبيانات المالية والاقتصادية وبيانات الإنتاج، وحتى الخرائط الجيولوجية. استخدم ميدفيديف، القرائن اللازمة، وكان أشد صراحة وغلاظة، قائلاً للرئيس يلتسن إن الموضوع لم يعد أزمة، بل انتقل إلى كونه كارثة. ميدفيديف أوضح للرئيس أن الوضع القائم، كفيل بأن يخفض الإنتاج بمقدار النصف، وأن رفع معدلات الإنتاج بمقدار مليون برميل، يتطلب استثمار 15 مليار دولار. العملة الروسية كانت في أدنى مستوياتها، والوصول إلى هذا الحجم من الاستثمار أصبح مستحيلاً، إلا بالدخول مع شراكات خارجية. والمعضلة كانت أن الشركات، تتطلب التعاقد مع الحكومات ذات السيادة على الثروات الطبيعية. محيط روسيا لا يزال مؤثرًا في الدول المنحلة من الاتحاد السوفييتي. بل إن الخلافات مستمرة على من يتحكم في الثروات الطبيعية والقوى العسكرية. وكانت أهم مقترحات ميدفيديف، هي تجاوز الخلافات مع الدول المتفككة من السوفييت، والتركيز على مصالح روسيا العظمى، مع إبقاء هذه الدول في محيط التأثير الروسي من النواحي الأمنية والاجتماعية والمؤسساتية.

 الكعكة النفطية الكبيرة

تصاعدت الأصوات المطالبة بالتعاون مع الغرب. الكرملين اقترح الاستعانة بشركات الاستشارات الأمريكية: مكينزي وبوسطن كونسلتنج، التي أعادت اقتراح تخصيص شركات النفط، وعلى رأسها: روسنفط، ولوكويلن ويوكوس، مع تخصيص جزئي لشركة الغاز (غازبروم). والأهم كان اقتراح مزادات “القرض مقابل الأسهم” الذي قام – بناء عليه – مجموعة من المسؤولين ورجال الأعمال والبنوك، بإقراض الحكومة المال، مقابل التملك بالأسهم في شركات النفط، وللحكومة مدة أقصاها خمس سنوات للسداد، أو تنتهي الملكية إلى المقرض. لم يكن من الصعب، أن يدرك المقرضون أن الحكومة عاجزة عن سداد القروض، فأصبحت المزادات – فعليًا – هي مزادات لشراء حقول النفط من الحكومة بثمن بخس. المقرضون تحولوا إلى أصحاب ثروات نفطية هائلة في فترة وجيزة ، وأصبح مسمى هؤلاء الأثرياء ( أوليجارش). أمَّا نجاح برنامج القرض مقابل الأسهم، فكان أدنى بكثير مما كان متوقع منه. ما بين كروت الدعم في حكومة قيدار 1992-1994، والقرض مقابل الأسهم في حكومة تشيرنوميردن، تمكن الأثرياء الجدد من فرض نفوذهم على الخارطة النفطية الروسية. الأثرياء كانوا سعيدين بما نالوه، ويلتسن فاز في الانتخابات. بعد فوز يلتسن ظهرت موجة غضب شعبي ضد ما سمي (مسروقات القرن)، وضد شركات الاستشارات. أدى هذا الغضب إلى توقف برنامج “القرض مقابل الأسهم” بعد أسابيع معدودة من فوز يلتسن.

وبدأت بين المساهمين، رحلة صف الأوراق، وتصفية الملكيات في الشركات. ووصلت أسعار النفط إلى ثمانية دولارات للبرميل، وهو ما ألقى بظلاله على الشركات وملاكها. ومعظم الملاك، كان له تعاون مع دول خارجية لحمايته. وكان الوضع حساساً جدًا وشائكًا، خصوصا أن الدول العظمى في الغرب، موجودة بثقل كبير في شركات النفط في روسيا والدول المتفككة من الاتحاد السوفييتي. حقول النفط ذاتها، كانت أصول ضمانية حتى بالنسبة للبنوك والأثرياء المالكين للبنوك. بل إن ما تم اقتراضه من الخارج يفوق القيمة الضمانية للحقول. الرئيس يلتسن أقال تشيرنوميردن، ليأتي بعده كيرينكو، الذي اقترح طرح جوهرة الشركات الحكومية (روسنفط) للمساهمة من أجل الحصول على عشرة مليارات دولار؛ لتجنب إفلاس الدولة. لم تستطع المحاولات الوصول إلى 450 مليون دولار من تلك القيمة. فاستنجد يلتسن بالرئيس الأمريكي كلينتون، من أجل المساعدة في الحصول على قرض من صندوق النقد الدولي. إلا أن كل المحاولات باءت بالفشل. أعلنت روسيا إفلاسها في 17 أغسطس 1998 بمديونية قدرها 40 مليار دولار، والبطالة كانت عند مستويات تاريخية، والبنوك أغلقت أبوابها. أقال الرئيس يلتسن، كيرينكو، ليأتي بعده بريماكوف. أدركت روسيا أن النفط ليس له قيمة، ما لم يصل من باطن الأرض إلى الأسواق. أقيل بريماكوف ليأتي بعده ستيباشين.

سأجعل من نفط روسيا مثل نفط المملكة العربية السعودية

توالت التغييرات في رئاسة الوزراء أكثر من أربع مرات. الرجل صاحب النظرة النفطية، كان نائبًا لعمدة سان بطرسبرج، وأحد أهم أعضاء جهاز المخابرات السوفييتي والروسي. كان دائمًا ما يجعل المجال النفطي على رأس اهتماماته، منذ أن كان نائبًا لعمدة سان بطرسبرج. كان يقول “سأجعل من نفط روسيا مثل نفط المملكة العربية السعودية”، مبديًا إعجابه بالنموذج النفطي السعودي. إعجابه بالنموذج السعودي، ينبع من قدرة المملكة العربية السعودية على التعامل مع الداخل والخارج بسياسة متزنة وحريصة على مصالح البلاد. تمَّ تعيينه رئيسًا للوزراء بعد ستيباشين، وبعدها قام هو بإقناع الرئيس يلتسن بالعدول عن الرئاسة في عام 1999، ليصبح هو رئيسًا لجمهورية روسيا الاتحادية فخامة الرئيس فلاديمير بوتين.

أحد أهم أهداف الرئيس بوتين، هو بناء جمهورية روسيا كقوة عظمى، وهو ما يتطلب تأكيد سيادة الدولة على ثرواتها الطبيعية. ويأتي القطاع النفطي – كالعادة – على رأس الهرم. أدرك الرئيس بوتين أن الأمر يتطلب خبرات وتقنيات عالية المستوى، وحسن إدارة للأمور النفطية، مع وجود التمويل المناسب. كان من الواضح، أن رفيق دربه في مكتب عمدة سان بطرسبرج وزميله في جهاز الاستخبارات، أيغور سيشن، سيكون ذراعه الأيمن. التوافق الكبير بين رؤية الرجلين، أفرز تقاسمًا متبادلاً للأولويات والمهام. كل ما يعني النفط، كان من شأن سيشن، وكل ما يعني الغاز، كان من شأن بوتين.

عودة التوازن

دخل بوتين في محاولات لإعادة توازن القوى، خصوصًا مع الأثرياء النفطيين. أراد الرئيس بوتين أن يجعل التوازن شأنًا روسيًا داخليًا، بعيدًا عن تأثير قوى الخارج. جمع الرئيس بوتين كل المؤثرين من الأثرياء والساسة، ماعدا من اعتبرهم الخارجين عن روسيا العظمى. الاجتماع الشهير في 28 يوليو 2000، أكد فيه بوتين للجميع، أنه لا يريد التأثير على أرباح، أو مداخيل الأثرياء بشرطين: الأول، هو عدم التسبب في التأثير على الدولة وسيادتها. والثاني: هو أن يجعلوا من أموالهم استثمارات داخل روسيا وضمن الاقتصاد الروسي. أوضح بوتين أنه لا يريد أن يرى المزيد من الحوالات إلى بنوك سويسرا. بالنسبة للأثرياء (أوليجارش)، فهم يدركون أن العقلية الروسية لا تعترف كثيرًا بالاتفاقات المكتوبة بقدر الالتزام بالاتفاقات المتفاهم عليها.

روسيا النفطية اليوم

تعيش روسيا اليوم، واقعًا نفطيًا مستقرًا وقادرًا على الإيفاء بمسؤولياته. روسيا اليوم، أكثر من أي وقت مضى، دولة ذات حضور استراتيجي في شتى المناطق في العالم. روسيا أيضًا تبحث عن شركاء استراتيجيين قادرين على تفهم البنية الروسية من الداخل، وطريقة العمل في داخل روسيا. روسيا بقيادة الرئيس بوتين دولة عظمى، لها ثروات طائلة تحت أراضيها، وهي – في الوقت نفسه – دولة قوية فوق الأرض، قادرة على تنفيذ ما يخدم مصالحها ومصالح حلفائها. التجارب التي مرت خلالها روسيا، أعطت الكثير من الدروس عن المجتمع الروسي، وطريقة عمل الأنظمة الروسية من الناحية التنفيذية والفعلية والإدارية. يظل المجتمع الروسي مجتمعًا شرقيًا في بنيته وطريقة تفكيره، حتى وإن كان مع اتهام الغرب، بأن المجتمع الروسي يمر بمرحلة البحث عن هوية جديدة بعد النظام الشيوعي.

في أثناء بداية دخول شركات النفط الغربية في روسيا، ساق الغرب فكرة أنَّ روسيا تبحث عن هوية جديدة، إلا أنَّ الغرب اكتشف خلال دخوله سوق العمل الروسي أنَّ روسيا عاشت تحت أنظمة أكثر تعددًا من الغرب نفسه. والإرث الشيوعي، أو الأرثوذكسي، لم يمنع روسيا من التعايش في هذا الخليط الكبير من الأعراق والأديان والانتماءات، بل كان إرثًا أكثر وضوحًا مع ما تتطلع إليه روسيا أن تكون، بل حتى ما تتحاشاه روسيا أن تكون. نلحظ ذلك من خلال قراءة الاتفاقات النفطية، التي لم يكن هدفها تحقيق الطموح المستقبلي لروسيا فقط، بل قطع الطريق – تمامًا – على العودة إلى الأنظمة الشيوعية التي أتت على النمو والازدهار لروسيا.

كاتب أقتصادي – مختص بالصناعة النفطية*

@AzizSapphire

النشرة البريدية

سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!

تابعونا على

تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر