تداعيات الانسحاب: رد الفعل الإيراني ومساعي ترمب لإعادة تشكيل خيارات إيران | مركز سمت للدراسات

تداعيات الانسحاب: رد الفعل الإيراني ومساعي ترمب لإعادة تشكيل خيارات إيران

التاريخ والوقت : الأحد, 4 نوفمبر 2018

مايكل إيزنستادت

 

يعكف الإيرانيون – حاليًا – على تقييم خياراتهم في أعقاب انسحاب الولايات المتحدة في الثامن من مايو من الاتفاق النووي الذي أبرم عام 2015، وانتهاج سياسة الحد الأقصى من الضغوط الرامية للعودة لطاولة المفاوضات. ربَّما يتركز الحديث قريبًا على انتهاء ذلك التقييم؛ إذ إن العقوبات الموجهة لقطاع النفط الإيراني، المصدر الرئيس للإيرادات والعملات الأجنبية بالنسبة لطهران، والشركات التي تتعامل معها في الرابع من نوفمبر الجاري، أدى إلى وقف شراء النفط الإيراني أخيرًا، تحسبًا لهذا الموعد النهائي. لكن التحدي الراهن الذي تواجهه واشنطن ينصب على كيفية ممارسة الضغوط الكافية لحث طهران على إعادة التفاوض، والحيلولة دون لجوئها لاستخدام القوة لتعزيز نفوذها الدبلوماسي، أو فرض المزيد من التكاليف على الولايات المتحدة.

لقد استجابت طهران في السابق – بشكل عام – للضغوط التي مورست على برنامجها النووي عبر تسريع أنشطتها النووية من أجل التظاهر بأنه كلما زادت الضغوط عليها زاد التقدم الإيراني. وهكذا، فرغم تصاعد الضغوط بين 2006 و 2015 زادت إيران عدد أجهزة الطرد المركزي العاملة لديها من صفر إلى ما يقرب من 20 ألف جهاز. ومع اتساع وتكثيف نطاق الضغوط استجابت طهران بشكل أو بآخر، وذلك في الوقت الذي تجنبت فيه اتخاذ خطوات تصعيدية كان من شأنها أن توسع نطاق الصراع مع واشنطن. وبالتالي، فقد ردت الهجمات المشتركة بين الولايات المتحدة وإسرائيل على البرنامج النووي الإيراني عبر الهجمات الإلكترونية على البنوك والمؤسسات المالية الأميركية عام 2012، وردت على اغتيال العلماء النوويين بالهجمات على الدبلوماسيين الإسرائيليين في العديد من البلدان الآسيوية في نفس العام، كما ردت على تحليل الطائرات بدون طيار الأميركية بتكثيف الهجمات على الطائرات الأميركية بدون طيار في الخليج العربي في عامي 2012-2013.

إلا أن طهران تواجه – حاليًا – معضلة أكثر تعقيدًا؛ فهي تعاني من عقوبات أميركية قد تؤدي إلى خفض الدخل النفطي، في الوقت الذي تعارض فيه العديد من الدول الأوروبية ذلك. فقد أبلغت الأخيرة القيادة في طهران أنه في حال انتهكت أو انسحبت من الاتفاق النووي، فإنها ستصوت على فرض عقوبات أممية عليها بغرض ضمان الوصول بالسياسة الأميركية للحد الأقصى من الضغوط الأكثر فاعلية.

وهكذا، طالما ظلت طهران مقيدة بما يمكن أن تفعله في المجال النووي بغرض تراجع الضغوط الأميركية. كما يمكنها أن تقترب دون أن تتجاوز بنود الاتفاق النووي من خلال زيادة إنتاج المواد المخصبة، ومكونات أجهزة الطرد المركزي، والارتقاء إلى الحد الأقصى من مستويات التخصيب والمخزونات، وإجراء المزيد من البحوث على محطات الطاقة النووية للسفن البحرية. كما يمكن أن تنجر طهران إلى سياسة حافة الهاوية النووية. وإذا كانت العقوبات الأميركية تتمخض عن أضرار حقيقية، فإن طهران يمكن أن تحاول كسب النفوذ على الولايات المتحدة من خلال الذهاب لما هو أبعد من عمليات التخصيب وزيادة المخزون أيضًا، فضلاً عن التدخل في مراقبة الوكالة الدولية للطاقة الذرية، أو العمل على إحياء برنامجها النووي. ويمكنها الرد – أيضًا – في مناطق لم تكن مرتبطة – بالضرورة – بالنطاق النووي، حيث يمكن أن تسرع في اعتقال وسجن الرعايا الأميركيين من عملاء وجواسيس مزدوجين مثل تلك التي استؤنفت أخيرًا بعد توقفها عام 2016، وكذلك زيادة اختبارات الصواريخ متوسطة المدى التي توقفت عام 2017، أو مضايقة السفن البحرية الأميركية في الخليج العربي، التي تم التوقف عنها أيضًا عام 2017، بعد أن أطلقت السفن الأميركية طلقات تحذيرية على زوارق الدوريات الإيرانية. وفي السياق ذاته، يمكن لطهران أن تسعى لتعطيل المرور البحري في مضيق هرمز، واستئناف الهجمات الإلكترونية عبر الإنترنت (السيبرانية) ضد الولايات المتحدة، التي توقفت – بالفعل – مع المفاوضات النووية في عام 2013. ويمكن لإيران – أيضًا – استخدام وكلائها النشطاء في العراق لتجديد الهجمات على الأفراد الأميركيين هناك، التي أوقفتها في أعقاب الانسحاب الأميركي في 2011. وفي مقابل ذلك، حذرت الحكومة الأميركية من عواقب وخيمة إذا أقدمت طهران على ذلك، رغم أن هذا لم يمنع الهجمات الصاروخية بالوكالة على المنشآت الدبلوماسية الأميركية في بغداد والبصرة.

لكن طهران تواجه العديد من الصعوبات، فمن المحتمل ألا تؤدي عمليات الاختطاف واختبارات الصواريخ ومضايقة السفن البحرية إلى توسيع نطاق نفوذها على واشنطن، إذ ربَّما يمكن أن يأتي ذلك بنتائج عكسية. فمحاولات إغلاق مضيق هرمز من شأنها أن تلحق ضررًا بالغًا بمصالح إيران الخاصة؛ ذلك أن كل صادراتها ووارداتها النفطية تمر عبر هذا المضيق. فطهران يمكنها القيام بذلك فقط في حالة توقف كافة صادرات النفط والغاز الإيرانية. وفي حين أن الولايات المتحدة ربَّما تكون عرضة للهجمات الإلكترونية الإيرانية، فإنها يمكن أن تسبب أذى أكبر بالنسبة لإيران في هذه المنطقة. كما قد يؤدي قتل الأفراد الأميركيين في العراق، أو أي مكان آخر، إلى حث واشنطن على شن حملة شرسة ضد “فيلق القدس” التابعة للحرس الثوري الإيراني، وذلك باستخدام تقنيات متقنة في حربها ضد القاعدة وتنظيم “داعش”.

وجدير بالذكر أن مثل هذه التصرفات تحمل العديد من المخاطر لإيران. رغم أن القادة الإيرانيين قد تعلموا منذ الثمانينيات من القرن الماضي، أنه بإمكانهم شن حربٍ بالوكالة ضد الولايات المتحدة دون تحمل مخاطر الانتقام العسكري، ومع ذلك، فإنهم ينظرون إلى الولايات المتحدة على أنها خصم لا يمكن التنبؤ به، وقد يكون الأمر خطيرًا. وكان جورج دبليو بوش، الذي رفض “بناء الأمة” خلال حملة الانتخابات الرئاسية عام 2000 ، قد أمر بغزو أفغانستان والعراق بعد هجمات 11 سبتمبر 2011، فضلاً عن جهود بناء الدولة المكلفة في كلا البلدين. وبعد التعهد بتفادي حرب أخرى في الشرق الأوسط، شن الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما، حملة ضد “داعش” في أعقاب غزو الموصل وشمالي العراق في يونيو 2014.

وأخيرًا، فقد عززت شخصية الرئيس دونالد ترمب المتقلبة والسياسات المتقطعة، مخاوف طهران بشأن عدم القدرة على التنبؤ بسلوك الولايات المتحدة. فبعد إعلان عزمه على سحب القوات الأميركية من سوريا، قام بالتحقيق في هجمات الميليشيات الموالية لإيران بالقرب من “التنف” والقوات الموالية للنظام بالقرب من دير الزور. كما شنت القوات الأميركية هجومين، ردًا على استخدام الأسلحة الكيميائية من قبل قوات النظام، وقد هدد المسؤولون العسكريون بالرد بقوة أكبر على الهجمات الكيماوية المستقبلية.

وفي المقابل، اتخذت طهران نهجًا أكثر حذرًا تجاه الولايات المتحدة منذ ذلك الحين؛ فقد أشار المسؤولون الأميركيون إلى أن القوات الأميركية ستبقى في سوريا طالما كان ذلك ضروريًا لضمان “الهزيمة الدائمة” لداعش ورحيل القوات الإيرانية ووكلائها. ومن المرجح – أيضًا – أن تواصل طهران أنشطتها بـ”الوكالة”، رغم اعتقادها أن واشنطن لن تتجه لاستخدام القوة العسكرية ضدها.

وفي مواجهة التحركات القوية للولايات المتحدة في سوريا والشرق الأوسط، قامت طهران بتكثيف دعمها للحوثيين في اليمن بالصواريخ التي استهدفت الأمن الإقليمي بالمنطقة، كما سرعت جهود بناء مرافق إنتاج الصواريخ والبنية التحتية العسكرية الأخرى في سوريا ولبنان. وفي فبراير من هذا العام، أرسلت طهران طائرة بدون طيار محملة بالمتفجرات إلى المجال الجوي الإسرائيلي، لكن تل أبيب تمكنت من إسقاطها، ما أدى إلى سلسلة من الاشتباكات التي أدت إلى توجيه ضربة إسرائيلية كبيرة ضد البنية التحتية العسكرية لإيران في سوريا بشهر مايو الماضي.

كما كثفت إيران من أنشطتها ضد جماعات المعارضة التي تخشى أن تستخدمها واشنطن ضدها، وتخطط – أيضًا – لهجوم على جماعة تابعة لمجاهدي “خلق” في باريس في يونيو الماضي، حيث تشارك في الهجمات على “الحزب الديمقراطي الكردستاني” شمالي العراق في سبتمبر، فضلاً عن إطلاق ضربة صاروخية أخرى ضد مرافق “داعش” في سوريا في شهر أكتوبر، وذلك ردًا على هجوم إرهابي على موكب عسكري في خوزستان.

وهكذا، فإن رد الفعل الإيراني على الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي سوف يتحدد في ضوء مدى جدية وتجدد العقوبات الأميركية. فإذا كانت إيران قادرة على استيعاب الموقف لكونها تبيع ما يكفي من النفط، وقدرتها – أيضًا – على استعادة الأموال من عملائها الأجانب، وتحقيق الاستفادة من ارتفاع أسعار النفط، فإنها بذلك ستظل تراقب الموقف الأميركي وتنتظر الرئيس ترمب، على أمل أن يصل رئيس أميركي غيره للسلطة في يناير 2021. وخلال هذه الأثناء ربَّما تلجأ واشنطن إلى استخدام وسائل رمزية إلى حدٍ بعيدٍ لردع طهران من أجل تجنب مواجهة عسكرية مع الولايات المتحدة.

إن ذلك الوضع لا يعكس – بالضرورة – مأزقًا بالنسبة للولايات المتحدة مع القيادة الإيرانية بشأن الاتفاق النووي وتوجهاتها نحو العقوبات المفروضة على طهران. فما لم تفكر به إدارة ترمب عند إطلاق سياسة الضغوط الحالية، هو تقديم رؤية أكثر وضوحًا بشأن الكثير من الأمور الأخرى؛ إذ ليس من الواضح ما إذا كانت المنافع الحقيقية بالنسبة لواشنطن هو ما توقعته إدارة ترمب، وهو ما يفرض عليها المزيد من التفكير بشأن الأهداف القصوى حتى وإن كانت غير قابلة للتحقق.

فإذا ما أقدمت واشنطن على وقف العقوبات، فربَّما تتخذ طهران خيار الموافقة على جولة جديدة من المفاوضات مع إدارة ترمب قد تنطوي على تقديم تنازلات مقابل تخفيف العقوبات، أو القيام بأنشطة مختلفة لزعزعة الاستقرار، وتكثيف دعمها لوكلائها (الحوثيين وحزب الله على وجه التحديد) في المنطقة لزعزعة أمن الشرق الأوسط. وربَّما تلجأ طهران إلى شن عمليات ضد المصالح الأميركية في المنطقة، وذلك حتى تتمكن من إعادة إشراك واشنطن في المسار التفاوضي، لكن من موقع قوة. وهنا نشير إلى أنه في حال فاز المتشددون في طهران اليوم، فإن جهود زعزعة الاستقرار قد تشمل خوض صراع ذات مستوى منخفض، لكنه مفتوح بهدف الإطاحة بالولايات المتحدة في المنطقة.

وفي هذه الحالة، يثار التساؤل حول ما هي الاعتبارات التي ينبغي التركيز عليها في توجه السياسة الأميركية تجاه إيران؟ وما الذي يمكن أن تفعله إدارة ترمب لتشكيل الخيارات الإيرانية؟ وللإجابة على ذلك التساؤل، يمكن الإشارة إلى ما يلي:

أولاً، ينبغي للمسؤولين الأميركيين أن يبذلوا جهودهم لإبقاء التوترات مع طهران دون الوصول إلى وضع “النزاع المسلح”، لكن مع عدم دعم الحروب الأخرى في الشرق الأوسط، في ظل تصاعد التوترات مع كوريا الشمالية وروسيا والصين، حيث تُقدَّم حاليًا مطالب تنافسية على الموارد العسكرية الأميركية. لكن كافة الصراعات الاستراتيجية طويلة الأجل التي تتميز بها العلاقات الأميركية الإيرانية، لم يتم حسمها بضربة واحدة، ومن ثَمَّ يجب تجاوز السياسة الأميركية الراهنة بشكل يعكس تلك الحقائق.

ثانيًا،ربما يدفع المتشددون في إيران باتجاه عمل عسكري، ردًا على تصرفات الولايات المتحدة الحقيقية والمحتملة، خاصة إذا كانت حملة الضغوط من شأنها أن تزعزع استقرار إيران داخليًا. وربَّما يسعون للتأثير على سياسات الحرس الثوري الإيراني، أو الدفع نحو تعجيز “المرشد الأعلى”، أو أن يموت. وبالتالي، فإن الحفاظ على مصداقية الرادع الأميركي، سيكون أمرًا أساسيًا لتجنب التصعيد.

ثالثًا، تحتاج واشنطن، على الأقل في الوقت الحالي، إلى تجنب تجاوز الخطوط الحمراء التي قد تدفع طهران إلى الرد على الضغط الأميركي وذلك بالقيام بهجمات بالوكالة أو القيام بعمل عسكري. فمن الناحية العملية، يعني ذلك السماح لإيران ببيع ما يكفي من النفط فقط، ورد ما يكفي من الدخل للحفاظ على دعم اقتصادها للحياة، مع تجنب الجهود الرامية إلى إحداث تغيير نشيط في نظام الحكم بطهران؛ ذلك أنه من المتعين أن يعلم القادة الإيرانيون أن جعبة الولايات المتحدة لا تزال تحتوي على العديد من الأوراق.

ومن ثَمَّ، يجب على واشنطن أن تفرض ضغوطًا كافية لدفع طهران نحو الانخراط من جديد لإنقاذ اقتصادها، وتجنّب احتواء إيران حتى لا تشعر أن أمامها خيارًا آخر سوى التصدي لها، وهو ما يفرض على واشنطن العمل بالتوازي مع الأزمة الحالية التي تعاني منها إيران، حتى تتحول في نهاية الأمر إلى دولة شرق أوسطية أخرى فاشلة، وبالتالي سيكون التصرف بحكمة هو مفتاح إدارة الصراع على مستوى التصعيد، وتجنّب المزيد من عدم الاستقرار والصراع، وتحقيق نتيجة سياسية مقبولة.

 

إعداد: وحدة الترجمات بمركز سمت للدراسات

المصدر: مجلة أميركيان إنترست American Interest

 

 

النشرة البريدية

سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!

تابعونا على

تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر