الأدب الشعبي والسياسة | مركز سمت للدراسات

الأدب الشعبي والسياسة

التاريخ والوقت : الأربعاء, 15 أغسطس 2018

عبير الجربوع

 

يبدو مصطلح “الأدب الشعبي” أقل أهمية من “الأدب الرفيع” أو “أدب النخبة” أو الأدب عموما غير المصنف بالشعبي، فكل ما يوسم بالشعبية يحمل في طياته إيحاء بالعشوائية والابتذال والدونية إن صح التعبير، لكن الأدب الشعبي بما يشمله من قصص شعبية وأساطير وأمثال وأغانٍ شعبية، هو المعبر حقيقة عن تراث الشعوب، ففيه مراعاة لعنصر واحد فقط، وهو التعبير عن الحقيقة كما هي، على الضد من أدب النخبة الذي يصور الحياة كما يجب أن تكون، أي في صورتها المثالية الجميلة، ورغم أنه يأخذ الواقع ليجعله عناصر تكوين له إلا أنه ينحت هذا الواقع ويحككه حتى يبدو بالصورة التي تناسب أن يكون ضمن تصنيف “النخبة”.

والأدب الشعبي يعكس صورة الواقع ويمثل البيئة والمجتمع خير تمثيل، كما أنه أحد روافد تشكيل الوعي البشري، لذلك كله كان موضوع دراسة واهتمام في أقسام علم الاجتماع أكثر من غيره من أنواع الأدب، ولأن البيئة متغيرة والبشر متغيرون فإن الأدب الشعبي متغير هو الآخر، إذ هو متاح لمن أراد أن يعدل عليه ويغير فيه وفق ما يخدم رؤيته، خاصة إن كان الأدب الشعبي شفاهيا غير مكتوب.

وقد كان الأدب الشعبي مكونا مهما لثقافة المجتمعات، ووعاء لقيمها، وليس أدل على ذلك من الأمثال الشعبية التي قلما يخلو حديث منها، ولأهمية الأدب الشعبي والثقافة الشعبية عموما أُسست منظمة خاصة تُعنى بها، تُعرف بـ”المنظمة الدولية للفن الشعبي” تحت رعاية اليونيسكو.

ولأن الأدب الشعبي يعبر عن الحقيقة كما هي، وينقل الواقع كما هو، فإن فيه تناولا للمسكوت عنه، واختراقا “للتابو”، وربما كانت هذه السمة هي ما جعلت المتأثرين بهذا الاختراق ينبذون هذا الأدب ويحرصون على إخفائه والتقليل من شأنه، لا سيما أن الطبقات الحاكمة لديها سلطة تخولها التحكم بالأجهزة الإعلامية والمؤسسات الثقافية، وهذا ما يفسر وجود أجهزة رقابة في كثير من الجهات (التلفاز، الإذاعة، الصحف، الكتب …).

وتعد السياسة معطى مهم في الثقافة؛ لذلك فإن الادب الشعبي يحتضن كثيرا من الأبعاد السياسية، ويعد رافدا يشكل الوعي السياسي المجتمعي، وعند تحليل السياقات الواردة فيه تتضح هذه الأبعاد، فالأدب الشعبي محمل بأيدولوجيات صعبة الاختفاء.

ورغم أن الأدب المعاصر قد تساهل حتى تمادى في اختراق عنصري التابو (الجنس والدين) إلا أنه ظل يطرق السياسة على استحياء، ويتناولها بالتلميح وعدم المباشرة تارة، بعيدا عن انتقاد السياسة الحاكمة، كبعض أدب السجون، أو بانتقاد المستعمر أو المحتل تارة أخرى، أو بانتقاد بلده إن كان في بلد آخر، ويندر أن نجد من ينتقد سياسة بلده وهو فيها، إما خوفا أو ربما عدم الثقة بالموقف الحالي الذي قد يتغير سريعا، أما الأدب الشعبي فظل محافظا على هذا التجاوز بأركاحه الثلاث، دون أن ينطوي على خوف، خاصة أن كثيرا من منتجات الأدب الشعبي لا تحمل اسم مؤلف.

والطريف في الأدب عموما، والشعبي خصوصا، أنه يمكن إسقاطه على أي عصر، وتوظيفه للتمثيل لمواقف أو آراء سياسية فردية أو مؤسسية، فالأدب الشعبي حيلة للنقد السياسي والتغلب على السلطة السياسية والسخرية منها، وفي أبطال الأدب الشعبي رموز فنية تنتخب لأنها تعكس الآراء في السلطة السياسية، خذ على سبيل المثال قصة اشتهرت عن جحا مفادها أن رجلا شكا له ضيق الحال، فأمره جحا بشراء حمارٍ يسكنه معه، ثم خروف ثم دجاج، ثم أمره بالتخلص منهم بالتدريج، الحمار فالخروف فالدجاج، فشعر الرجل بعدها بأنه في حال أفضل. هذه القصة تُسقط على مشاكل المواطن في الواقع العربي، ومواقف بعض السياسيين في حلها، فعندما يشتكي المواطن يُضيق عليه أكثر ثم يعاد به إلى الحال القديم، فيشعر كصاحب جحا بأنه أصبح في حال أفضل.ومثلها في ذلك قصة مسمار جحا التي تسقط أيضا على مواقف سياسية، حتى أن أحدهم ذكر أن جحا شخصية تعبر عن الناقد السياسي والاجتماعي بأسلوب ساخر، أو أنها شخصية مخترعة جعلت كل هذه القصص على لسانها بهدف النقد السياسي.

وعند الانتقال إلى نوع آخر من الأدب الشعبي، وهو خيال الظل، الذي هو عبارة عن تمثيليات تحاكي مواضيع سياسية واجتماعية وتاريخية بطريقة فكاهية ساخرة، وتنفس عن كبت الشعوب، فنلحظ تأثيرها من موقف السلطة إزائها، إذ كان موقفا صارما، فأحد الحكام أمر بإغلاق الأماكن التي تُقدم فيه، وحاكم آخر حكم بحرق شخوص خيال الظل وجلد لاعبيه.

أما كليلة ودمنة فهي قصص سياسية في أصل وضعها، إذ أُنشئت بهدف تقديم النصح للحاكم بطريقة غير مباشرة، وقد ترجمت للعربية لأن الحياة السياسية والاجتماعية في القصص مشابهة لما كان عليه الواقع العربي في خلافة المنصور، الذي يُعرف بقوة بأسه وشدته على من يخالفه، مما جعله بحاجة إلى النصح بشكل غير مباشر، فتُرجمت هذه القصص وعُدل عليها وأُضيف فيها لتناسب الواقع العربي آنئذٍ.

وبالانتقال إلى ألف ليلة وليلة، فنرى أنها سياسة أيضا في أصل وضعها، إذ كانت حكايات روتها شهرزاد لشهريار أساسا بوصفها سياسة تنجيها من الموت، فكانت هذه الحكايات مماطلة سياسة تمنع قتل شهرزاد وتوقف الظلم عن بنات جنسها.

إذن محصلة القول إن الأدب الشعبي لا يهاب الخروج عن المألوف والمسكوت عنه، وهو يعكس أنساقا ثقافية وسياسية حقيقية نبعت من رحم المجتمع والبيئة، ووضحت شكل السلطة والقيادة والزعامة، وساهمت في إنتاج الإنسان فكريا ووجدانيا وسياسيا، وكثُر إسقاط الأدب الشعبي على الحياة المعاشة مما جعل الطبقات الحاكمة ترفضه وتحارب وجوده، إلا إن استُخدم بوصفه حيلة غير مباشرة تؤثر على الحاكم.

عضو هيئة تدريس في جامعة الملك سعود*

@i_beera

النشرة البريدية

سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!

تابعونا على

تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر